الفعل الشعري وجمالية التعبير في ( أناشيد الرائي ) للشاعر وليد الزبيدي

قراءة.. محمد جوده العميدي

  اذا كانت القراءة هي المدخل الحقيقي لإنجاز المشروعات الكتابية  ، فأن بين يدي الآن مجموعة شعرية ابداعية جديـــدة للشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي ( أناشيد الرائي ) الصادرة عن دار السكرية للنشر والتوزيع  في مصر . عشت مع فضاءاتها الشعرية وكائناتها اللغوية وقتا ممتعا ، متذوقا ومستمتعا . ويسرني الآن أن أعود اليها قارئا ما كتبت عنها ، ففيها من الإغراءات النقدية ما يجعلني أشرع قلمي وفكري لمداخلات حوارية . 

لشعر الدكتور وليد الزبيدي نكهة مائزة ، فهو يتعاطى النص الحديث بنفس القدرة التي يتعاطاها في النص  العمودي  ، وقد صدر له مسبقا ست مجاميع شعرية :  (خرافة المرايا – حصى الانتظار – محارتي – تغريدات نخلة – ايقونات على مكتب الذاكرة  – مرايا الورد ) ، واليوم يطل علينا بديوانه السابع ( أناشيد الرائي ) الذي يجمع فيه تجاربه الابداعية الخليلية و تجربته الحداثوية .

أستهلت المجموعة مقدمة جميلة وقراءة رائعة للأديبة السورية نجاح ابراهيم وكانت بعنوان ( عروجا نحو قبة الأناشيد ) . خمس  أبواب مؤصدة  ، ما ان تفتح  أولها حتى تجد نفسك في آخرها .. هكذا هي نشوة الشعر حين تخرجنا  بلا وعي من فضاء شعري لتدخلنا في فضاء شعري آخر .

 في ملمح أولي نقف به على شرفات الديوان ، أستوقفني العنوان ( أناشيد الرائي ) وجعلني  – كقارئ – اتعامل معه كعتبة نصية اولى  توصلني الى قراءة ما في الديوان من اشارات وعلامات ودلالات ، ذلك ان العنوان عبارة من كلمتين  ( أناشيد الرائي )..   اذن  لماذا الرؤيا ؟  أين بقية الحواس ؟  وكأن الشاعر وليد الزبيدي يريد ان يجعل الرائي  ( شاهد عيان ) على صدق أحاسيسه  ومشاعره في كتابة النصوص . كل هذا التواصل النفسي والشعري للشاعر جعل من عنوانه ( أناشيد الرائي ) مشروعا ابداعيا تختزل فيه كل فضاءات النصوص ودلالاتها .

أما الملمح  الثاني فهو في العمق ، داخل بيئة النصوص وتكويناتها اللغوية و كائناتها الشعرية حيث نجد  النص الشعري التراثي العمودي و النص  الحداثوي و نصوص الومضـــــــــات flash poems  القصيرة .  

في الباب الاول قرأت ستا وعشرين قصيدة عمودية وبثيمات شتى ، يكاد يكون الهاجس الوطني وما تعانيه بلادنا هو الغالب على هذه النصوص فقصائد : ( بغداد – سأنتظر العراق – اسماعيل  – هو العراق ) مشحونة بالمشاعر الوطنية الصادقة وفيها من المشتركات ماجعلني  اختار قصيدة  ( سأنتظر العراق ) كقصيدة سكرى لما فيها من سمات شعرية وجمالية ولغوية . تسير المضامين الفكرية  في القصيدة في خط مواز لقيمتها الجمالية من خلال صياغة شعرية ينفذ من خلالها الى لب الموضوع  دون خطابية رنانة او مباشرة فجة ، فنجد الشاعر وليد الزبيدي آخذا بيد قارئه رويدا رويدا من بداية القصيدة الى نهايتها بأسلوبه السلس المعهود ، وهو ما يصادفك من اول عتبات نصه من العنوان ( سأنتظر العراق ) فيشاركك  رحلة بحثه ، اذ القضية واحدة و الهم مشترك ، فيبدأ قصيدته  بذلك  ( المشترك المضمر ) ، فالقصيدة وان بدأت  بضمير  المتكلم المفرد ( سأنتظر العراق ) ، الا ان المراد هو صيغة الجمع ( سننتظر العراق ) لأن الجميع سينتظرون ، وهذا مضمر يمكن توظيفه من خلال سؤال يطرحه الجميع : ( كيف ننقذ الوطن ؟ ) .

في قصيدته ( سأنتظر العراق ) رسم الشاعر الدكتور وليد الزبيدي لوحة ذات مشاهد ثلاث .  رصد في مشهدها الأول الواقع المرير لوطن على وشك الضياع وصور حالة الفرقة التي تنخر في عظام هذا الوطن . أستغرق هذا المشهد الثلث الأول  ( الأبيات الخمس الأولى ) من القصيدة ، مبتدأ بالسؤال (متى سيأتي ؟ ) الكاشف عن حالة التردي التي وصل اليها هذا الوطن . ولا يفتأ الشاعر يصور تلك الحالة من خلال تعدد عوامل ضعفه من سيطرة الوهم  الخادع الى السلوى و العزاء  وخداع الذات  الكاشف عن حالة التردد وفقدان الثقة والاتزان .

 

ومما رصده الشاعر الدكتور وليد الزبيدي في  الثلث الثاني  ( الأبيات الثلاث التالية ) من قصيدته و بالخطاب المباشر الصعوبة في اعادة وطننا الى ما كان عليه . ويضع الشاعر يده على أصل الداء وكأنه يرصد حالنا الآن  فيتحدث عن – المسكوت عنه – متمثلا في سيطرة الضغائن و الأحقاد على قلوب الأخوة . والشاعر في رصده لتلك الحالة لاتجده مسرفا  في تصويرها ، فالشاعر لا يريد ان ينكأ الجراح بقدر ما يريد اندمالها ، مستثيرا حميتهم من واقع ما يجمع ويؤلف لا ما يفرق ويشتت ، اذ لا تزال في الوطن همم عالية يحذرمن ضياعها مستلهما التاريخ بعبره   فكان للتوظيف التأريخي  مضامين عصرية مما يجعله  توظيفا عميقا له قيمته .

بأن رجوعه قد بات صعبا

لصوص ، وأحتراب ، وأنشقاق ..

وأن طريقه ملئت حرابا

وشط بأضلع هوسا نفاق . .

وفي الثلث الأخير  ( الأبيات الست الأخيرة ) ، يرى الشاعر أن هناك  ثمة أمل بعودة وطننا ليجمعنا جميعا ، أمل مشروط بصفاء نفوسنا .  وعندما تصل العجائبية ذروتها في القصيدة يختم الشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي مشهدها الاخير بما يشبه خاتمة رسالة يلخص في نهايتها ما سرده في تضاعيفها مبينا تهافت المنطق عندما تخالف الأقوال الأفعال . 

ويرجع قبلة حرا طهورا

ويرجع للبناء لنا ، السباق ..

  سأنتظر العراق فلا عراقا

اذا ما غيرت سنن ، سياق ..

متى ما غيرت فينا نفوس 

سيجمع شملنا هذا العراق.. 

لقد استطاع الشاعر الدكتور وليد الزبيدي ان يوصل رسالته عبر أكثر من (  ثيمة ) دأب على توظيفها هنا كتوظيفه  للغة الفنية من خلال  تطعيم معجمه الشعري بمفردات عربية أصيلة  نهلت منه هذه القصيدة فكانت مفرداتها شفافة عذبة تطرب لها الأذن ولا يمجها السمع .

وفي الباب الثاني من المجموعة ( شعر التفعيلة ) قرأت أثنتا عشرة قصيدة  تتناول فن القول بين العشق وعذوبته وبين هجرة الروح  للمجهول وبين الانطلاق الى الاعالي والتحليق  بحرية المفردة مع  الاحتمالات القائمة على الاستعارة الغالبة في النصوص الشعرية  كما في قصيدة ( صورة غلاف ) :

كنت اصطفيتك حبا

واحتضنتك شعرا

واستعذتك حربا

وجه كالملائك بدر

تجلى

وصوت كناي تغنى

ان طبيعة الاثارة في الفكرة و الصور المتسلسلة  في النص هي التي تثير الاهتمام والفضول  في التتبع الى نهاية النص الواحد حيث تجد تلك الخصوصية و الترميز في هذه المجموعة الشعرية في بعض الاحيان الذي يجعل تجريدي واضح بينما تنظر له من زاوية اخرى تجده ينهل وينبع من الواقعية المحملة بشاعرية الشاعر ، والتأثير هذا واضح  في صناعة الادوات واللغة التي تعتمد على حرفنة  واضحة في طريقة الكتابة عبر فعاليات ذهنية  وروحية تتطور مع تطور الحدث الدرامي في النص الواحد صور بها مؤهلات متفاعلة  حتى تبلغ مستوى الذروة في   الصورة الشعرية . 

 

وفي الباب الثالث من المجموعة ( أيقونات ) ،  قرأت أربع عشرة أيقونة يتطلع الشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي الى تجربة  شعرية ابداعية  لم يسبقه أحد في خوضها  .   تجربة شعرية تجمع بين البيوغرافيا ( السيرة الذاتية) غير المكتوبة و النص الشعري الذي يتطلب التأويل لمعرفة الشخصية المختارة . والايقونات وما تحويها  من بريق المعاني وسحر الكلمات وبانورومات الحياة تثري مفرداتنا و تغني ثقافتنا بخفة ورشاقة ، فتمنحنا كنزا ثقافيا ومنظورا فكريا جديدا    .

  يمتلك الشاعر وليد جاسم الزبيدي  تجربة شعرية أصيله متجذرة في أديم الشعر العربي يتطلع دوما الى خوض كل جديد فكان مبدعا قي تجربته هذه عندما بث فيها أنفاسا غير مألوفة آملا أن يقدم رؤيا شعرية مائزة في القرن الحادي والعشرين ، فكانت ( الأيقونات ) .

  يمكنني القول بأن أيقونات الشاعر وليد الزبيدي هي رؤيا شعرية مائزة وتجربة أدبية جديدة وهي محاولة لأستحضار الغائب بنصوص شعرية قصيرة شبيهه بقصائد الومضة . وبهذا فأن الشاعريؤسس لما هو غير مالوف عندما تجمع أيقوناته بين البايوغرافيا والنص الخاص بها .

قرأت النصوص فوجدتها تحفل بالتقانات المستحدثة من ترميز وتأويل متعدد ، ولا غرو أن يكون التجريب هاجسا أبداعيا وراء هذا المطمح الأبداعي . أن الأنزياحات اللغوية التي كتب بها الشاعر من أجل التكثيف أبعدته عن النثرية المفرطة التي قد تخرجه من فضاءه الشعري . تسير الأيقونات بخطين متلازمين من فكر وفن شعري أندمجا ليقربا نصا شعريا الى المتلقي 0 وهدف الشاعر هو ان تستقطب القصيدة وعي المتلقي ، فلا يفصل بين النص الشعري و الشخصية المختارة 0 تناولت أيقونات الشاعر وليد الزبيدي (الأنثى) وفق مفاهيم ورؤية المجتمع الذكوري ، لكنه وفق في أختصار قيمة المرأة في أيقونات نسوية فكانت أيقونات :

جميلة بوحيرد   ونجاة الصغيرة  و نازك الملائكة و عفيفة اسكندر

 

أستخدم الشاعر وليد الزبيدي لغة بسيطة في تقديمه لهذه الايقونات واستعمل مفرداته التي تحضر لتوها فيكتبها مثلما يلفظها ، فيظهر النص الشعري للقراء وكأنه حديث يومي ، وهذا لم يمنعه من كتابة النص الشعري الموزون والنص المقفى المتقن .

تنبع جمالية النصوص في المسافة بين العرض الظاهر و الجوهر المختبئ .   الحواجز التي يبنيها التأمل و الفنتازيا اللغوية و المجازات الصعبة التي هي غالبا ما تجعل الشعر جوهرا خاصا صعب المنال . تجمع الأيقونات شخصيات عراقية وعربية و عالمية مما تؤكد أيمان الشاعر بمبدأ تفاعل الحضارات والثقافات الإنسانية .

وفي الباب الرابع (قصائد النثر ) قرأت ثمان قصائد بثيمات شتى أخترت منها قصيدة ( الهجع .. !) لما فيها من توظيف للموروث الشعبي folklore   ، وهذا يدل على تمكن الشاعر من تحويل  اليومي المعاشر الى مسألة شعرية ثم الى صورة ابداعية والى رسالة تكتنز بالتكثيف اللغوي و الدلالي .

عندما تضرب الأصبعين

يختلط في رأسك

الحابل بالنابل

في هذا النص وجدت الشاعر وليد الزبيدي صاحب صنعة دقيقة جدا في الاعتماد على المخيلة و الخيال في رسم صوره الشعرية لكونه هو المبدع  الاصلي للنص . ان هذه النصوص القصيرة تؤكد لي – كقارئ- على تأثر  الشاعر بأنواع مختلفة  من الفنون حيث وظف الشاعر ( الدلالات العاطفية ) التي تنبع من مصداقية  جمالية معبئة بالحب و التشبث بالحياة . وفي هذا النص أيضا  تبدو القدرة الشاعرية على اختزال الصور و تكثيفها  في لغة بسيطة تمنح المعاني الكثيرة بحروف قليلة .

 

وفي الباب الخامس ( الومضات ) قرأت ومضتين  ( جيفاريات ) و ( تميمة )  . وهي نصوص قصيرة  ذات تكثيف لغوي ودلالي  عال تحمل من الترميز و الكينونة الشعرية ما يمنحها   سمة  النصوص الشعرية المكتملة .

حينما أقول

الخلود

فأنا أعنيك أنت جيفارا

***

أملأ  كأسك

أخاف عليك من عطش

قادم

 تتسع  تجربة الشاعر وليد الزبيدي و آفاقها  في مجموعته الشعرية الجديدة ( أناشيد الرائي ) حتى تنفتح هذه التجربة على عالم رائع من المشاهدات  . شعر حقيقي استنبتته  ذاكرة شعرية حية نابضة بحرارة الشعر لتؤسس لفعل شعري خلاق يبقى في وجدان متلقيه . وللوقوف على تجربة شعرية كاملة النضج لا بد من تكرار التجربة في عدة مجموعات و نتاجات  ، ومع هذا فدلالة الشعر تبرز موهبة  وقيمة اعتبارية من خلال الملامح الاولى للتجربة وذلك الدفق الشعري الذي يشكل النواة الاولى لفعل قد يصل الذروة او قد يستقر في القاع .

بقي أن أقول ان مجموعة  ( أناشيد الرائي ) مكتنزة  بالفضاءات التي يمكن ان يصطفيها الدرس النقدي  ولكني آثرت ان تكون قراءتي وقفة أولية و مختزلة و انتقائية و الا  فأن هناك نصوصا ابداعية عمودية أخرى  في المجموعة  تحتاج الى التواصل  النقدي و كذلك نصوص حداثية تمور باللغة و تكتسي  بالأبعاد الدلالية. أكتفي بالمفاتيح التي أخترتها كمداخل للتواصل مع هذا المنجز الشعري الرائع تاركا الكتابة لأقلام نقاد آخرين.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى