العولمة والاستقلالية.. أخطاء وخطايا العراق في تسعينيات القرن الـ20

د. صلاح حزام | خبير اقتصادي يقيم في مسقط

في التسعينيات من القرن الماضي، وخلال سنوات الحصار، نشأت سياسة إعلامية حكومية موجهة تهاجم العولمة وتمنع الحديث عنها إلا إذا كان المتحدث أو الكاتب ينتقد العولمة ويهاجمها ويعتبرها سياسة امبريالية تهدف إلى الهيمنة على العالم.

في تلك الأجواء تجرأت وقدمت ورقة عن العولمة إلى ندوة عقدت في جمعية الاقتصاديين العراقيين (كنت عضواً في اللجنة العلمية في الجمعية).

الندوة كانت مكرسة لمناقشة موضوع منظمة التجارة العالمية. ولم يكن الهدف من الندوة التعرف على هذه المنظمة الجديدة بشكل موضوعي وعلمي، وإنما كان الهدف التشهير بها كمؤامرة على العالم من قبل الإمبريالية والصهيونية.

الورقة التي قدمتها كانت محاولة للتعريف بالعولمة ( باعتبار ان منظمة التجارة العالمية كانت بمثابة إطار تنظيمي للعلاقات التجارية الدولية في ظل العولمة).

كنت أسعى إلى القول إن العولمة حقيقة قائمة نتيجة ترابط العالم في كل شيء تقريباً.

وقلت إن الجوانب السلبية من العولمة متحققة بالفعل بدون موافقة الدول وإنها تنتهك سيادة الدول على أراضيها رغماً عنها. وكمثال على ذلك الانتهاك والارتباط السلبي، هي الجريمة المنظمة العابرة للحدود وتجارة المخدرات والتلوث وانتشار الأوبئة وبعض أشكال البث الإذاعي والتلفزيوني التي تحرض الشعوب على حكوماتها ونظمها السياسية.

ويشهد العالم تأثيرات مدمرة نجمت عن انتشار وباء في بلد معين لكنها ألحقت الضرر بكل العالم نتيجة الترابطات المعروفة.

كما إن الروابط التجارية بين دول العالم واعتماد بعضها على بعض في الحصول على احتياجاتها والنظام المصرفي العالمي والارتباط الثقافي والعلمي بين الدول والشعوب ووجود الأنهار الدولية المشتركة التي تجعل حياة شعب كامل تعتمد على إمدادات المياه من دولة أخرى وخطوط الطيران والنقل البري والبحري، هي أدلة على أن العولمة موجودة وأن العالم أصبح بالفعل يمتلك اقتصاداً واحداً تقريباً.

بناء على ذلك، لماذا لا تُنَظَّم هذه العلاقات في إطار منهجي يجعل الجميع يستفيد من هذا الواقع ويحفظ الحقوق ويمنح مزايا للدول الأقل نمواً؟

طبعاً معظم الحضور تعاطف مع ورقتي بحذر خوفاً من الاتهام بدعم العولمة، ولكني لن أنسى أبداً انفجار السيدة ناصرة السعدون (توفيت قبل أيام رحمها الله) من الغضب ومطالبتها جمعية الاقتصاديين بمنع وإسكات هذه الأصوات التي تروج للفكر الإمبريالي كالعولمة والديمقراطية ونحن في حالة حصار ونحتاج إلى تماسك الجبهة الداخلية.

كانت هذه التهم خطيرة جداً في ذلك الوقت، بالطبع، إضافة إلى كون السيدة ناصرة السعدون عضوة مهمة في الحزب وشخصية معروفة، ولكن لم يتعاطف معها أحد تقريباً بل انتقدها الكثيرون (بالخفاء بعد الندوة).

أتذكر أني قلت لها وبأسلوب ( انتحاري): أستاذة: إن وجود الحصار المفروض على العراق يؤكد وجود العولمة لأننا لو لم نكن نحتاج العالم ونرتبط به بقوة لما كان للحصار أي تأثير على حياتنا..

هذا جعلها تغضب بشدة وتترك القاعة وهي تردد كلام لم أفهمه.

والغريب أنه لم يحصل لي شيء أبداً بعد الندوة!! بل لقد شكرني عدد من المسؤولين الحاضرين.

وبعيداً عن أحداث تلك الندوة التي أردت من وراء استخدامها تبيان نمط التفكير السائد في تلك الفترة، أقول إن العولمة ليست نادياً رياضياً أو ترفيهياً ننتمي إليه كأعضاء بإرادتنا الحرة، بل هي واقع وقانون فرض نفسه نتيجة التطورات الاقتصادية في العالم ومنذ أن أطلق ديفيد ريكاردو (الاقتصادي البريطاني الكلاسيكي الكبير: ١٧٧٢-١٨٢٣) نظريته المعروفة بنظرية المزايا النسبية المقارنة، التي دعت إلى تقسيم العمل بين دول العالم حسب قدرتها على إنتاج المنتج المعين بأقل كلفة من غيرها من الدول.

إضافة لهذا الغطاء النظري، والذي كان يستند إلى قراءة علمية لطبيعة التطور الإنساني، فإن التبادل التجاري ينشأ في قسم منه نتيجة عوامل موضوعية ويمكن ملاحظته بدون تفسير نظري، مثل:

– الاستقطاب العلمي والتكنولوجي في بلدان معينة كانت رائدة في الثورة الصناعية الأولى وما تلاها من ثورات أخرى وصولا إلى الثورة الصناعية الرابعة الأمر الذي جعلها تمتلك مقاليد العديد من الصناعات وتجعل باقي العالم يعتمد عليها في الحصول على تلك المنتجات. كما إن تفوق هذه الدول قد يستمر طويلا لأنها تستمر بتطوير منتجاتها وتستمر بالبحث العلمي لكي تمتلك المزيد من الأسرار العلمية التي تجعل مهمة اللحاق بها من قبل دول اخرى أمرا صعبا أو مستحيلاً.

– توفر مصادر طبيعية هامة كالنفط والفحم والحديد مثلاً، في بلد وعدم توفره في بلد آخر. ذلك يؤدي إلى نشوء التجارة.

– نمو محاصيل زراعية في بلد وعدم نموها في بلد آخر.. وهكذا ..

هذه الحقائق تجعل الحديث عن الاستقلال التام للدول حديثاً غير واقعي مهما كان حجمها: أمريكا تعاقب روسيا وهي تمتلك ترسانة نووية عظيمة وتعاقب الصين وهي تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتعاقب إيران وتوصلها إلى حافة الانهيار والقائمة تطول.

كذلك يفرض الاتحاد الأوربي ودول أخرى أحياناً عقوبات على دول أخرى.

بل إن العرب أنفسهم عاقبوا الولايات المتحدة عام 1973 بقطع ضخ النفط وألحقوا ضررا كبيرا بأمريكا وأوربا.

إن امتلاك دول نامية معينة مخزونات كبيرة من مواد تعتبر أساسية للصناعات في دول متقدمة، لن يُسمح لها بأن تكون مستقلة تماماً وتتحكم بعصب حياة اقتصاديات كبرى .. إما أن تكون فيها حكومات موالية وتحسن استخدام تلك المواد  أو أن يتم التدخل عسكرياً واستخباراتياً فيها .

وختاما، أشير الى حادثة أخرى ذات صلة وقعت في إحدى الندوات العلمية التي يقيمها بيت الحكمة (كنت عضوا في الفريق الاستشاري في قسم الدراسات الاقتصادية في البيت)، حيث كان اللقاء يهدف إلى مناقشة والتعرف على اتفاقية منظمة التجارة العالمية .

وكالعادة هاجم العديد من الحضور الاتفاقية والمنظمة باعتبارهما واجهة للاستعمار الجديد. لكن الذي حصل إن أحد السادة الحضور وكان شخصية محترمة مستقلة يعمل مديرا عاما في وزارة التجارة مسؤول عن العلاقات الاقتصادية الخارجية، تصدى لهم بطريقة محرجة حينما أعلن أن مجموع صفحات وثائق الاتفاقية يبلغ 14 ألف صفحة وإننا في العراق لا نملك نسخة منها  وتساءل: من أين حصلتم على معلوماتكم عن وثيقة غير موجودة لدينا أصلا ولم يطلع عليها أحد؟ وحتى إن توفرت لا أعتقد أن أحدكم قادر على قراءتها كلها وإعطاء رأي بخصوصها.

أعتقد أن التعامل مع الأمور بهذه الطريقة يفسر الكثير من الأخطاء والمشاكل التي حصلت في العراق.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى