المنهج القرآني العقلي في حجاج المشركين (1)

 

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

وقبل الدخول إلى تناول القرآن لتوحيد الألوهية الذي يدعو العباد إليه، بما استحق الله لذاته، وبما أمد من النعم، وأوجد من العدم.. نعرج هنا على أمر مستحدث لا يعول القرآن عليه في جدلياته إلا بشيء يسير من التلميح لا التصريح، يثبته في ثنايا آياته البينات دون أن يلتفت إلى أدعيائه، أو يقيم لهم وزنا .. ألا وهو أمر (الإلحاد) أو إنكار وجود الله ..

هذا الأمر الذي تأباه أبجديات الفطرة وبدهيات العقل والخلق؛ لكن قد نرى طغاته يطلون علينا كل حين، و في هذا الزمان من طرف خفي، ثم ما يلبث أن يبهت كما بهت من كان قبله,, وقد ظهر هذا الإنكار مع بداية الشيوعية، ومع قيام الثورة الفرنسية، في حالات من غياب العقل والوعي البشري، ثم اختفى ، ثم راح يطل علينا في بدايات هذا القرن .

وهذه الحكمة القرآنية التي لا تقف لتجادل أمثال هؤلاء، رغم جدلها مع المشركين والكافرين، فهي تعد هذا الفريق (المشركين) من أصحاب الفطرة المنحرفة الذين تستوجب تبصرتهم وإقامة الحجة عليهم من منطلق فطرتهم، أما الفريق الآخر (الملحدين)، فهم منكروا الفطرة أصلا، شاذون عن منظومة الكون بكليتها”الجماد والشجر والدواب والأنعام .. والبشر كذلك.

 لذلك لم يلتفت القرآن إليهم إذ لم تكلف البشرية المنحرفة نفسها لتجادلهم، فكيف بمنطق القرآن الذي لا يخاطب إلا أصحاب العقول، وتلك قضية تعارض بدهيات العقل التي عدها أهل العلوم المختلفة، والفلاسفة، والأنبياء، وأولوا الفطر الصحيحة، ك ” لا يجتمع الضدان.. ولا يكون الشيء نفسه في مكانين في نفس الزمن.. والواحد أقل الاثنين.. وغيرها ..” ومع ذلك نجد من الآيات ما يستفز هذه الفطر من عدمها، ويستدعيها من غيبتها، فيقول:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)” (البقرة).. وليس وراء خطاب العقل هذا من دليل (لقوم يعقلون )، وأي دليل بعد هذا الكون العظيم؟!

ثم نكمل مع توحيد (الألوحية)، إذ يفند القرآن حجة الأنداد المخترعون من دون الله، إذ لم يدعوا لأنفسهم شيئا من ملك ولا خلق ولا شرك، إلا ما ادعاه لهم ضلال الخلق، وهم من هذه الدعاوى برءاء.. ولم نعرف من ادعى لنفسه شيئا من هذا، إلا ما ذكره القرآن من هذين النموذجين الذين بهتت فريتهم بمجرد أن فندت .. فالأول هو النمرود الذي حاج إبراهيم عليه السلام في ربه، فكان الجواب مبهتا، أي تبدو آثار الإفحام على وجهه من الخزي “ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)” (البقرة).

وأما النموذج الثاني فهو (فرعون) الذي قال “ما علمت لكم من إله غيري” ، وقد كان هذا على خطى صاحبه الأول(النمرود) فالأول “أن آتاه الله الملك”، والثاني كانت دعواه أيضا بسبب الملك” وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)” (الزخرف).. وقد استعلى بما لم تخلق يداه، ولم تبدع قدرته؛ إنما كان من خلق الله، وكذا بملك الله الذي خوله..  وقد جعل الله منهم عبرة في الدهر فلا تقم حجة بدعواهم.

وإذا كانت دعوى الشركاء من دون الله قد بطلت بما لم يدعوه لأنفسهم، وبما لم يقدموا من شيء قد يستحقوا شيئا من صرف العبادة إليهم، فإنها كذلك تبطل من وجه القبول العقلي الذي يأباه هؤلاء المشركون أن يجري عليهم فيما يملكوه من عبيد وأموال، وذلك في قوله ” ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)” (الروم).. وتأمل في كل مرة (يعقلون) فأي عقل هذا الذي ينزه بشريته عن أن يشركها عبيدها في مال أو ملك، ثم يدعي هذا على الله افتراء وزورا وبهتانا “تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا” .

وتلك كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، أن يقيم على المشركين الحجة مما تستخلصه عقولهم من منطقية الجواب.. ومن ذلك ما جاء في سنن الترمذي أنه قال لحصين والد عمران: كم تعبد إلها؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبك ورهبك؟ قال: الذي في السماء.

كذلك ما جاء في سنن الترمذي وابن ماجة من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه : أن الله أمر يحي بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن.. أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب، فقال اعمل وأدّ إلى، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده.. فمن يسره منكم أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئا.

وقد يستنكر المنطق هذا التشتت والتفرق القلبي والبدني في تصريف العبادة بين الشركاء، كما يستنكره في أمر الحياة بين هؤلاء المشركين وعبيدهم “ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)” (الزمر). فاي طمأنينة تلك التي يلقاها العبد من تفرق قلبه وبدنه بين الشركاء المتشاكسين، وقد كفاه الله بالتوحيد هم الشركاء وتنازعهم.

كذلك لا يستقيم أبدا أن يكون هذا الكون البديع في الخلق، والمتقن في الصنع لله فيه شركاء، فلن يصلح أمر الكون بهذا ولن يستمر على حسبانه ونظامه المتقن الذي تعلمه عقولنا “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)” (الأنبياء).. إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)” (فاطر).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى