صحافة واق الواق تطبيل ونهيق ونفاق

ناصر أبو عون

الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، ولك ربنا الحمد على نعمك الأثيلة أمَّا بعدُ؛ فحديثنا اليوم عن حال الصحافة في بلاد (الواق واق) وقيل في أصل تسميتها بهذا الاسم لأنّ بها شجرة ثمارها على صورة نساء معلقات من شعورهن في الأشجار، وأهلها يتطيرون، ويصرخون (واق واق)‏. و‏قال محمد بن زكريا الزهوي‏:‏ (هي بلاد كثيرة الذهب وأهلها يتّخذون سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم من الذهب ويلبسون قمصان منسوجة من ذهب)‏.‏ وحكى موسى بن المبارك السيرافي أنّه دخل هذه البلاد وقد ملكتها امرأة وأنه رآها على كرسي العرش عارية وعلى رأسها تاج وعندها أربعة آلاف وصيفة عراة أبكاراً‏).

وبحديثنا عن حال الصحافة في هذه البلاد لا يستوجب من القارئ ألا يسقطه على ما يُنشر في بلد بعينه؛ فالتعميم يخالف قواعد العلم والأخلاق، والإسقاط رذيلة، ونقيصة ونفاق، وإنّما كلامنا هنا من باب التوصيف المجرد لحال الصحافة في بلدان العالم الثالث المتوزّعة على مساحة الكرة الأرضية، ووصفناه ببلاد (واق الواق) لانحراف بعض وسائل إعلامها عن جادة الصواب، ومقالتنا على سبيل النصيحة والتحذير من انزلاق صحافتنا في مهاوي الضياع يوم لا ينفع ندم أو نذير.

فالصحافة يا سادة يا كرام في بلاد (الواق واق) أصابها (مرض البُهاق)؛ وأمراضٌ شتى تتوزّع ما بين (بهاق فكريّ)، وتغيّرٍ في لون (الخط التحريري) حسب مِزاج المناوب الليليّ، و(نزيفٍ حادٍ) في (الضمير المهنيّ) مقرونًا بتدهور مفاجئ في (محتوى الصحفيّ) أدّى إلى (تراجع وضعف الانقرائية)، وإغلاق الجرائد الورقية، وهروب القراء من هذا الوباء فأمسى معدل المطالعة الصحفية في أدنى مستوياته في أيام الإجازات الأسبوعية، والموسمية والأعياد الدينية.

وليس الصحافيون وحدهم وراء تراجع مستوى الصحافة، فقد ساهمت (دوائر الإعلام) في المؤسسات الخاصة والحكومية بإفساد ذائقة الإبداع لدى المحررين، وثبَّطَتْ الهِمَم، ووزّعَت حصص (الكسل، والبجم) على شباب المحررين المحدثين، والقدامى المخضرين خلافًا للطّامة الكبرى التي وقعت على رؤوس الصحفيين جراءَ (المواد الصحفية سابقة التجهيز) التي تُورّدها إليها (الدكاكين الإعلامية) القابعة على ناصية الشوارع، والأرصفة في العواصم العربية ما بين (حوارات مزيُفة، ومزوّقة، وكاذبة) مع أهل (السياسة، والفن، واللطافة).

وفي ظل غياب (سياسة تحريرية) معلنة، أو خفيَّة كلُّ شيء مباح حيث يتحوّل (الصحفي) ما بين عشيّةٍ وضحاها من (مبدع وكاتب)، إلى (موظّف براتب)، وقياسًا على غير قياس لم تُفْلِح الجرائد في بناء (مدارس صحفية راسخة) تتناسل منها أجيال متعاقبة، بل اكتفت بأن تكون فقط (بيئة طاردة للكفاءات)، و(مشجِّعة على (هجرة الأدمغة المبدعة) صوب شركات القطاع الخاص. ومع استقطاب الإعلام المرئي لقطاعات واسعة من المعلنين بدأت قاعدة قراء الصحف الورقية تتآكل حينًا بعد حين.

و(ليس من المبالغة في شيء القول): بأن هذه السياسة انتهت بالصحافة إلى (حشرها، ومحاصرتها) في زاوية (الصحافة التنموية) مع غياب صارخ لـ(صحافة الطفل)، والاعتماد كليةً على استيراد مطبوعات الأطفال من الخارج التي تعجّ بثقافات مختلفة ومغايرة لثقافتنا العربية وبعضها مبطَّنة بأفكار تساهم في هدم البنية الوحدوية للنسيج الاجتماعي للأمة، فضلا عن اختفاء ما يسمى بالصحفي الاختصاصي (تأهيلا وإعدادا وتدريبا) حيث تفتقد معظم صحفنا إلى أقسام تحريرية هي بمثابة (عمود الخيمة) في (نهضتنا الحضارية). فعندما تتجوّل في أروقة أي صحيفة لن تتوقف أمام لافتة مكتوب عليها (القسم العلمي)، ولن تجد أثرًا لما يسمى (بالقسم الدبلوماسي)، ولا وجود البتة (للمحرر القانوني)، بينما (المحرر التعليمي) – في نظر مالكي الصحف – رفاه لا ضرورة له وقد يفتح أبوابًا لا تُسدّ!! ومن ثَمَّ كانت هناك (براعة منقطعة النظير) في إدخال صحافتنا إلى (بحر الظلمات) وخسفها في (جحيم المشكلات)، ونتج عن ذلك (طمس على عقول وقلوب القراء) من علاماته (غياب الجدل الفكريّ)، و(موت العقل النقديّ)، و(تسفيه الفكر التنويري) مما ترتب عليه ضبابية في المشهد حيث لا تبدو في الأفق بادرة (نهضة حضارية) تنتشل الأمّة من (قاع الماضي)، وتنتقل بها إلى (رواق الحاضر)، وتسافر بها في (آفاق المستقبل).

ناهيك عن رجعيّة، وفاشيّة، وتسلّطيّة (حارس البوابة) والذي بات دوره ينحصر في إشعال (محرقة الحروف الأبدية)، و(ارتكاب مجزرة للموضوعات الصحفية)، كدليل تطبيقي على (صدق ولائه لمالك الصحيفة)، وتراه يروح، ويجيء كطاووس في أروقةِ الجريدة متفاخرًا بنجاحه في (تهميش أبناء الوطن)، و(حجب مقالاتهم)، و(تسفيه موضوعاتهم)، و(شطب إبداعاتهم)، ويتخذ من (تأويل أفكارهم) مطيّةً وحجةً دامغة أما محكمة الضمير الميّت (لإصدار الحكم بإقصائهم) من المشهد، والتوصية لأصحاب القرار بالاعتماد على (كُتّاب القطعة، والأقلام المستأجرة) ليتحفونا يوميًا بحزمةٍ من مقالات (الأفكار التافهة)، و(الحوارات الزائفة)، و(الأخبار المستهلكة)، و(عروض الكتب الماسخة)، لتتحول الصحيفة على يديه إلى متحدث رسمي باسم (التفاهة والسفاهة)، وبوقِ دعايةٍ صارخة (يُروّج لأحلام المدينة الفاضلة)، و(ينشر أخبار نخبتها الفاشلة)، و(يحتفي بإبداعات نسوتها النائحة)، و(يسوّق لقرائنا صناعتها البائرة) أمّا المبدعون فليموتوا بغيظهم حسرةً، وخيبة على حظوظهم العاثرة.

كلُ ما سبق يا سادة يا كرام ساهم بغير قصد في تحويل صحافتنا في عصر تكنولوجيا المعلومات، وسباق الفضائيات إلى (صحافة خبر)، ورافقه تراجع في (صحافة الرأي)، وإقصاء لـ(صحافة الجماهير)، وصار لا وجود البتة لما يسمى بـ(الصحافة الاستقصائية) وغياب المنهج العلميّ عن ذهنية المشتغلين بها.

ومع غياب (مواثيق شرف أخلاقية)، و(خطط استراتيجية) صارت صحافتنا تغطُّ في (سبات عميق)، ومع (ثبات قوانين النشر، والمطبوعات)، وخشية (رؤساء التحرير المحنَّطين) أنْ يمسسها التطوير بضرّ. ظهرت وتبرعمت (صحافة إلكترونية حرّة) على أسقف عقولنا، وتسلّقت جدران بيوتنا، ولمّا كان قانون المطبوعات لا يطالها بمواده المتكلِّسة أضحت تنافس الصحافة الورقية، بل تفوّقت عليها في جوانب عديدة، وهددت عرشها المتهالك وتكاد اليوم تسحب البساط من تحت قدميها.

وإذا ما جادَ الزمان لها بثلة من المدراء المستنيرين الراغبين في بعثها من رقدتها الطويلة تفاجأ بأنّ الموارد البشرية التي يُعوّل عليها في قضية التطوير والتحديث مجرد (موظفين) لا (مبدعين)، يوقعون صباح مساء في خانة الحضور والانصراف، ويرون (الراتب منحة حكومية)، وليس (أجرةَ نظير عمل). وأمام هذه المعضلة لم يكن ثَمَّة خيارات متعددة أمام المؤسسات الصحفية على امتداد جغرافية الوطن العربي الكبير إلا انتظار هؤلاء (المحررين الموظفين) وهم (يحملون أوزارهم على ظهورهم) حتى بلوغ المحطة الأخيرة من (سن التعاقد القانوني) لتتخلص من أعبائهم المالية، وإشكالاتهم الإبداعية، على أمل صناعة جيل جديد يحمل راية نهضتنا الصحفية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى