السجين

عمر حمّش | قاص فلسطيني – غزة

قصة قصيرة من وحي ما جرى في مخيم جباليا سنة 1982

1- الذئبُ
من أين كنت ستدري أن العربة ستجأرُ فوقك، وأنت المغرمُ بالخلوةِ يا صاح، يسكرُك الشجرُ المتراص، يزهرُ بالأصفر، ويُعَطِرُ قلبَك شذاه.
كنت ظمئا لربيعٍ تتوالدُ نسائِمُه؛ فأتاك المتفوقُ في صحبِه، حطَموا الظلالَ بعجلاتِ عربة الجيبِ، وأداروا زوبعةَ الرمال.
في ثنايا دَغلِ الأكاسيا المتبقي، كان آخرُ مشهدٍ سربَ يمامٍ شقّ الأغصان، وأصفادُ نايلون بدأت تتوحشُ داخلَ لحمِك.
صغيرتُك إلى العربةِ جاءت صدرك، تبكي ..
والمتفوقُ فوقك يتصايح:
– جننتني.
اسمك في حشرجةِ الجهازِ صار يأتي، ويروح، وعقلُك في الصراخِ؛ لم يفهم، صرتَ في كيسِ خيشٍ خروفا مذبوحا، والمتفوّقُ على ظهرِكَ؛ يسبُّ دينَك، ويلهَث .. كانت عربته في الصبحِ عبرت السوق، وكان كذئبٍ، توحش فمُه على السيجار، وبين البسطاتِ تحطبَ وجهُه.
2- المخيم
هي الهيجاءُ الأخيرة ..
والناظرُ يصرخُ:
– يا مجنون.
وكتابُ التاريخِ يهيجُ، يصفقُ صفحاتِه، ومن راحتيك يرحل .. ينفلتُ كصقرٍ إلى السلكِ الشاهقِ، وهناك يرقدُ..
الناسُ كانت تهزُّ الأسلاكَ، والحجارةُ طارت كسكاكين تترنّح ..
وسقط أوّل ما سقط الولدُ سهَيلٌ، فزأرَ المخيمُ، واهتز صفيح البيوت .. وكان لحظتها ثمةُ جنيِّ ينفخَ في صورِ..
والشمسُ جنّت لحظتَها، ضَربت ضربَتها، فضخّت الأزقةَ كلَّ الناسِ ..
– ممنوع التجوّل
ممنوع
يا أهالي مخيم جباليا
ممنو
ع
مكبرُ الصوت هدر للمرةِ الألف، لكنّ العبادَ كانوا في الثكنة الرهيبة توغلوا، وشرعوا بأظافرِهم يقضمون الأسلاك ..
3 – العربة
في رئتيك حريق
والمتفوقُ ترفعُه عن ظهرِك حفرُ الطريق
وعجلات الجيب تزمجرُ في سفرٍ طويل..
جمعتَ صدرَك، لتستردَ عضلةً قلبك .. ارتفع المتفوقُ، ثمّ هوى، عدت بالشهقةِ تدفعه، وتسقطه بالزفير.
وسمعتَه وهو يلطمُك:
– من أسبوع أطارد في دينك..
توقف المحركُ، فجاء طويُ الموج، واللَّغطُ خالطَه الطنينُ، ثمّ للحظاتٍ عمّ صَمت، وحاولتَ التخمينَ، لكنَّهم أوقعوك، فدكّ الإسفلتُ عظمَك .. من مساماتِ الخيشِ لمحتَ حذاءَ المتفوقِ يأتيك، من ساقِك جرّك، ثمّ رفعَك، فدقك حديدٌ جديد، وأنفُك تشمّم رائحةَ شاحنة، وهدرَ المحركُ، ليمتدّ السفرُ:
أيّ مصيبةٍ كانوا يدبرون؟
بعد زمنٍ توقفوا، والمتفوقُ حمَلك؛ ليعيدَك ثانيةً إلى عربةٍ الجيب!
4- الشقّة
أنزلوكَ، فسمعتَ خوارا، ويهوديٌّ بفأسٍ على كومةِ تبنٍ تراءى..
حملك المتفوقُ، ليلهثَ تحتك، صعد سلما بلا انعطافٍ، وانحرفَ في صريرِ بابٍ، وبعد خطواتٍ قذفك، ليهوى بأنفاسِه عليكَ، ربّط ساقيك بتورمِ كفيكَ، ثمّ كلّك بساقِ سرير، صرتَ قفة، تهوي في بحرِ الدهشةِ..
دقائقُ كدهرٍ مرّت، وجاء زعيقُ أولادٍ من الخارج، وأقدامٌ فجأة جثمت،
نزع الكيسَ، وقال:
– أهلا!
ناعما أصفر، يزمُّ السبابةَ على الإبهامٍ، ودفعةً واحدة صاح:
– أنت مختطف حبيبي، في شقّةٍ لأقوى مخابرات في العالم.
راودتك رغبةُ تسليكٍ لحلقِك المسدودِ ببصقة.
– وما في حكي، اعترافك أو موتك.
هزّ أصابَعه ومطّ الكلمات:
– موت بلا جنازة.
مكثوا يعوون وأنت صنمٌ، تقف على ساقٍ، أو تنزلقُ، وذراعاك تحتك، قدماك فوقك، وعيناك في الكيسِ تبحثان، هم يزمجرون، وأنت تستدعي سكينةَ قلبِك، َ ضجيجُ الكونِ لفك، فأمسكت بعقلك!
5- البغلُ
سقفُ زنزانةِ سجنِ المَجدلِ تراهُ يهوي، والجدرانُ كانت ملطخةً بأفاع، الباب جبلٌ بكوّةِ عين، ويشخصُ سجينان فيكَ، غليظٌ كبرميلٍ، وآخرُ مثل جرادة!
قبل أن يدفعَك اليهوديُّ، خلع الكيسَ عن رأسِك، لكنَّ الدنيا ظلت قاعا مقفلا، انزلق الظهرُ على باب الزنزانة ..
في المخيمِ قالوا:
قبوُّ المجدلِ مصيدةُ من لا يعترفُ.
هل النزيلان هنا هما المصيدةُ؟
تفرستَ في ترقبهما، وانتظرت هجمةَ الاثنينِ، فقررتَ المبادرةَ.
قلتَ: تقفزُ، فتخصيَ الفحلَ، وتتركُ الجرادةَ لبعضِ الوقتِ.
سألاك عن اسمِك
قلتَ: معلمٌ مخطوفٌ.
وقلتَ: مجلوبٌ من شقةٍ في عالمٍ مجهولٍ.
كنتَ تريدُ نشرَ خبرِك لخلقٍ اللهِ، حتى لو في مصيدةِ، لكنّ عيونَهم اتسعت…
هل تندمُ على البوحِ؟
عند جلبِك إلى السجنِ صلبوك في بقعةِ ركنٍ آسنةٍ، فهاجمت قدميكَ جيوشُ بعوضٍ، صرت تمثالا أعمىً بقدمين دملين، ترفعُ دُمَلا لتحكَّ دملا، ومع الوقتِ التقطتَ مؤذنَ السجنِ، فطويتَ مع الصوتِ الأوقاتِ، تحسِبُها..
في الشقةِ تباروا عليك، قالوا:
ستموت..
قالوا:
– سندفنك نحنُ بلا تشييع!
أيذبحونك بسكينٍ؟
أم في الليلِ يعيدونَك ، إلى أغصانِ الأكاسيا، ويطلقونَ الحبةَ علي رأسِكَ؟
حشدُ البعوضِ أسوأُ ما في الدنيا.
هل دلقوا الماءَ عن قصدٍ، ليهريَ البعوضُ بدنَك؟
في يومٍ صرختَ، لتسمع صوتَك.
هاجَ عليكَ حارسٌ:
-اسكت
ارتحت لكسرِ الصمتِ، وصرختَ:
– أنا منذ ليال لم آكل.
دقّ ظهرك، وبعد وقتٍ عاد:
– أنت…؟
فاكتشفتَ أنّ في الدنيا غيرَك.
في ليلِ سبتٍ؛ صرَّ بابُ الحراسِ، عبرَ صراخُ سجينٍ قادم، وسمعتَ الحارسَ:
– قل لحضرة الضابط.
وقال القادم:
– ماذا أقول؟
– قل من سرق البغل.
ووصلتكم شخرةُ القادمِ:
– خخخخ … والله!
– أنت سرقت البغل؟
– البغل؟
شبعوا ضحكا، ثمّ عاد الصمتُ.
والجارُ الجديدُ طرقَ الجدارَ:
– يا شباب
– من الكريم؟
ذكر اسمَه، فعرفه النزيلانِ، طلب سيجارةً، فقضيتُم الليلَ تنادون.. شتمَ السجانُ عربَكم، وملوكَكُم، لكنّ الكّوةَ فُتحت، وأطلّ وجه ضبع، نقل هديتَكم، وعاد السجنُ يمارسُ الصمتَ؛ لكنَّ الجارَ الجديدَ قطع الصمت بأهازيجَ رقّصّت الجدرانَ، ورفيقاك صارا يكرران السؤال عن هجمتِك المقررةِ عليهما؛ وتسردُ تفاصيلَ خطتِك، وفي ضَحِكٍ هستيريٍّ تغرقونَ، فينفجرُ الصوتُ الآمرُ في الخارجِ مثقلا برائحةِ عَطنِ السجنِ:
– اسكُت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى