مقطع من أنثى في خريفها

نزهة الرملاوي | فلسطين

تفتح جدّتي يديها لي.. أركض لحضنها أدفئ نفسي بعطرها، وأرى طمأنينتي في كحل عينيها. تسرّح شعري وتبدأ بتقسيمه لتعمل منه جديلتين، وحينما ينطلق صوتها الشّجيّ بالتّهاليل، تبدأ الدّموع تتهادى إلى عينيّ، أحاول أن أخفيها، لكنّها سرعان ما تتعرّى أمام النّاظرين، أمّي التي اعتادت الأمر تضحك ساخرة؛ لتقلّل من انفعالي وتنعتني بالحسّاسة، وأخوتي ينعتون دمعي بالهبل، لكنّ جدّتي الشّاعرة تعلم ما تحمله نفسي، كانت كالفراشة اللاهية في عواصم الكلام تُتحفنا بالزّجل والشّعر، تغنّي لنا فيدخل الّلحن حجيرات قلوبنا بلا منازع، وحينما تنزوي بأحزانها، يصدح غناؤها كما النّاي تتلاعب أنغامه في مشاعري، تُثير في نفسي شجنًا لا ينطوي.
آهات تعلو في صدرها المغترب، تبكي الهجرة وتبكي أختها مريم، مريم التي ودّعت الحياة جانب البئر، حين استشهدت قبل زفافها بأيام، وكلّما سُئلت عنها، يجنّ عقلها وينفطر قلبها حزنا، تبدأ بسرد الأحداث كما لو أنّها تجري في هذه الّلحظات أمام عينيها وتبدأ بموشّح من النّواح مردّدة:
تاري مريم يا بوي مقيبلة عل البير
يمّا الجميزة مقيبلة عل البير
يابا وشو خلّاها تعبّي ميّ
والحرب جاي.. خبّرونا المخاتير
والفارس الّلي على المهرة جاييها
حامل معو سلاحه برفقة الأمير
يا أرض بلادي يوم دخلوك
توطّن النّذل وقتلوا الأمير
كنت أسمعها وهي تروي الأحداث بحرقة، وكلّما ذكرت دير ياسين وما حلّ بأهلها تعلو آهاتها إلى السّماء وتقول: يوم دخلوا العصابات على البيوت، صاروا يقتلوا الرّجال ويقطّعوهم ويرموهم بالبير، ويحرقوا بيوتهم، يسحبوا النّسوان يغتصبوهن، والحبله ( يبطوّا ) بطنها، والنّاس من الخوف تترك بيوتها وحاجاتها، تركض وتتخبّى بالمغر، جارة دار أبوي سعده حملت المخدّه بدل ابنها، ما قدروا يرجعوا يوخذوه، راح ولدها وطار عقلها يا حسرتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى