من وحي الصورة

منى النجم | كاتبة عراقية

تتسلل من ذاكرتي صور للطفولة العذبة في ريف العراق تحديدا جنوب الناصرية حيث تباشير الصباح والعذوبة كل العذوبة بانبلاج صباحاتها حيث سدرة النبق وتغريد بلبل هناك يوقظني كل فجر لملاقاة الله.
لوحة ربانية يرسمها الأفق، وتمتزج أصوات الطيور مع بعضها راسمة لوحة متفردة لم تهتد إليها فرشة أشهر فنان.
فشعاع الصبح يبتدئ مع معزوفات البلابل التي تتخذ من سدرتنا سكنا تأوي إليه.
ولما ينحدر الوقت ليحين الضحى أشاهد اللقالق قبالتي جاثمة على جذع نخلة مبتورة الرأس بلا حراك، تنظر إلى شيءٍ لا مرئي.
وبعدها ينعق الغراب ويظّل يدور ويدور ناعقا فتنهره أمي بغضب وصوتها يتهدج صه …..فما وراءك؟
هكذا كانت كما الآخرين تخشى صوت الغراب وتتطيّر منه.
لا أدري ما الذي يدفعها نحو هذا الاعتقاد! هل تجربة مرة عاشتها وخبرتها بنفسها أم محض مخاوف يتناقلها الناس فيما بينهم تركت أثرها في نفس أمي.
أم هي موروثات التأريخ الحافل بالمساوئ وقد اقتبست الناس الفكرة من بيتين شهيرين ليزيد بن معاوية قالهما عقيب سماعه لصوت الغراب بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام.

لما بدت تلك الحمول وأشرقت
تلك الشموس على ربى جيرونِ
نعب الغراب فقلتُ صح أو لا تصح
فلقد قضيت من الغريم ديوني.

وحينما يرخي الليل سدوله ويأوي كل إلى مخدعه كان يطيب لي أن أتأمل النجوم وأنا أستمع لإذاعة صوت العرب تارة، أو إلى إذاعة القرآن الكريم من المملكة العربية السعودية.
وفي باب الدار كانت تمكث هناك نخلة عذبة الرطب وترفة القوام وثمرتها ليست بالشديدة الحلاوة وإنما بين بين يطلق عليها اسم (ميّاسة).
كانت مأوى هي الأخرى لطائر البوم الذي قرن اسمه مع التشاؤم أيضا. كنت أنظر إليها وأفكر في سري: رباه إنه طائر ودود ومسالم يكتفي بالنظر إليّ ولا يحرك ساكنافلما يتشاؤم الناس منه أيضا.
وتوالت الأيام وأعقبتها الليالي وأنا هذا دأبي أتغزل بقامات النخيل وأتطبّع بخصاله حيث يموت واقفا وأرصد حركة الأفلاك من حولي وأراقب الزرازير حول بيدر الحبوب المنعشة الرائحة حيث العنبر اللذيذ طعما ورائحة.
كل ذلك طبع في مخيلتي صورة لجنة أرضية، جنة ساحرة كلوحة لم يغفل راسمها عن شيء.
فجاءت متناسقة الألوان مكتملة الأركان إنها القرية الجنّة
والنهر ينساب فيها بهدوء رزين، ويغترف منه الأهالي بسلال الصيد سمكا صغيرا طريا يشوى مع خبز (الطابك).
صانعا بيتزا فريدة من نوعها وطعمها فتشكيلة موادها وزهادة سعرها يجعلها أهنأ وأطيب.
هناك في ريفنا الجميل، كنّا نستيقظ فجرا مع أهلنا حيث يباشرون أعمالهم في الحقول الخضراء أو غيرها.
وبعدها عصرا يجتمعون لشرب القهوة في أحد الدوواين بطقوس جميلة ومحببة فتفوح رائحة البّن المطحون مع رائحة الهيل الزكية لتنتشر في المحيط القريب وتداعب أنوف المارة .
ويظل رجال القرية يتبادلون شتى الأحاديث بشغف مفرط وحب للحياة عجيب.
البيئة هناك نظيفة وسليمة فلا عادم للسيارات ولا ملوثات أخر من نفايات وغيرها حيث التعامل السليم مع الأشياء في الطهو وعدم استخدام البلاستك.
لا زلت أحن للعودة إلى قريتي النائية الساحرة.
وأتغزل بصورها المطبوعة في مخيلتي كوشم ملاصق لا يزول.
وقررت زيارتها ذات مرة إلا أن الزيارة كانت كارثية.
أول ماطالعتني روؤس النخيل العجفاء الفارغة الخالية والجذوع الخاوية.
ومن ثم أقداح البلاستك الراقصة والطافية على سطح النهر كخربشات ريشة مجنونة.
وغياب تام لأصوات البلابل والشحارير.
كنت عازمة على استرجاع الصورة المخملية النابضة بالحياة في ذاكرتي، فصدمتني لوحة أخرى جامدة لاروح فيها.
وحتى جارنا أبو عزيز صاحب الدكانة الذي كان يفتح فجرا دكانته ليباشر عمله كان مغلقا حتى الضحى.
ياللكارثة الموجعة، لقد تساوى الريف مع مدننا البائسة فلا روح ولاحياة اللهم إلا بضع أنساق لازالت مقاومة.
ولما ولجت بيت الحاجة قريبة أبي عند الساعة العاشرة صباحا وجدتها نائمة!
يبدو أنّ القوم يسهرون مع شبكة التواصل حتى الصباح وينامون نهارا.
هاقد تسّللت عادات المدينة التي هربت منها إلى قريتي. فما أنا صانعة ياربيّ.
هل لي بجنّة أخرى على مقاسي التخيلي لأدخلها بسلام آمنة مطمئنة. وجلسنا نتبادل الحديث بينا ابنتها تجهّز لنا الفطور.
ولدهشتي سألتها هل ماتت الأوقات مع أمي.قالت وقد غاب عنها مغزى السؤال: أمك لازالت تحيا في ضمائرنا صوتا شجيا متاخما للوجع مع كل مجلس يقام للعزاء في ذكرى رحيل الزهراء.

قلت موضحة: ما بال القرية هادئة ساكنة لاروح فيها. أين تغريد البلابل وزقزقة العصافير وهديل حمامة الأيك تنوح بصوتها ناحبة (ياكوكتي).
أين النخيل الباسقات، وبيادر العنبر وشموس الصباحات المنكّهة برائحة الرز الأشهر في العراق الحبيب.
أين بيتكم الريفي القديم الجميل والأثير إلى روحي.
وأينها زريبة الجاموس الذي أخافه مقصيّة في هذه الساحة؟
تحسّرت بكلمة جمّعت كل أوجاعي قائلة بألم:-(آخ…وأطرقت أرضا…..راحت).

راحت…قلت مّرددةٌ وراءها حينما لمحتُ أجباناً مصّنعة بدلا من زبدة (الدهن الحّر) المصنعة بيد الأمهات السومريات. وبيض المائدة المستورد من هنا أو هناك بدلا عن بيض دجاج القرية.
وتاهت عينيّ في فراغ الغرفة لتشخص ناظرة إلى البرج.
برج الاتصالات الذي بدا شامخا من شباك الغرفة بدلا من النخيل، والذي جعل من الدنيا قرية صغيرة .
بينما أضاع ملامح قريتي الحبيبة أو كاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى