فى ذِكْراكِ: ولأنك”أمل دنقل”هل تسمح لنا، أن نقول: صباح الخير..يا “أمل”!

خيري حسن | القاهرة

“المجد للشيطان..معبود الرياح

من قال«لا» فى وجه من قالوا«نعم»

من علم الإنسان تمزيق العدم

من قال «لا».. فلم يمت،

وظل روحُاً أبدية الألم”!

 

(القاهرة – صيف 1993)

فى ذلك العام قرأت مذكرات اللواء محمد نجيب (1901 – 1984) أول رئيس جمهورية لمصر، بعد سقوط الملكية، فى يوليو 1952. الرجل تحدث فيها عن 17 عاماً، قضاها تحت الإقامة الجبرية، محروماً من كل شيء فى الحياة؛ إلا من مجموعة قطط ضالة، يتسامر معها طيلة الليل، تحت أعين الحراس، فى منزل زينب الوكيل – كانت زوجة مصطفى باشا النحاس- الذى يقع شرق القاهرة فى قرية – الآن مدينة – المرج. وظلت بداخلى رغبة لا أعرف سبباً لها، للقيام بزيارة هذا البيت. وأنظر إليه من الخارج، ثم أذهب إلى حال سبيلى. وبالفعل حدث ذلك بعد سنوات. عندما غادرت مترو الأنفاق. واستقللت سيارة أجرة مكشوفة، تمر عليه، فى طريقها لقرية مجاورة للمرج تسمى «الخصوص». راكب كان يقف بجوارى أشار بيده عليه قائلاً: هذا هو المنزل الذى عاش فيه محمد نجيب. ثم حذرنى من الاقتراب منه، لوجود حراسة مشددة عليه. نزلت ووقفت بالقرب منه أنظر إليه، وأتخيل كل ما حدث فيه من أحداث، ذكرها محمد نجيب فى كتابه «كنت رئيساً لمصر». بعد دقائق لاحظت وجود شخص ما، يراقبنى من بعيد. بعد دقائق اقترب منى. ابتعدت أنا منه. اقترب هو أكثر. ابتعدت أنا أكثر. بعد خطوات تسمرت فى مكانى. سألنى: لماذا تقف هنا هكذا؟ لم أرد! ابتسم. وقال: أنا شاعر.. ولست مخبراً يا عزيزى! كنت استقل معك السيارة، ولفت انتباهى سؤالك عن هذا القصر، فنزلت بعدك بقليل أتابعك. ضحكنا ودعانى إلى شقته القريبة من المكان. حكيت له سبب حضورى. وحكى لى عن الشعر الذى يحبه. ثم قال: دعنا من السياسة.. وهيا بنا نقرأ الشعر. ثم قام وكنا نجلس فى بلكونة شقته المتواضعة وجاء بكتاب عنوانه الأعمال الكاملة لـ أمل دنقل. سألنى هل قرأت له من قبل ؟ قلت: لا.. للأسف ! هز رأسه ثم أنشد قائلاً:

“لا تصالح

أترى حين أفقأ عينيك،

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل تري؟

هى أشياء لا تشترى”

يومها كنت أنا وصديقى نتبادل القراءة. هو يقرأ قصيدة «لا تصالح» صارخاً بصوته الجهور. وأنا أقرأ فى حزن وألم قصيدة «أقوال اليمامة». وعندما ينفعل، كان يرتفع صوته، وكأنه فوق خشبة المسرح. تكررت تلك اللقاءات بيننا عدة مرات. وذات ليلة خرجت علينا سيدة عجوز تسكن فى الشقة المواجهة له. قالت إنها لا تنام من هذه الأصوات العجيبة، التى تصرخ بكلام لا تفهمه، وتقلق مضجعها. ابتسم صديقى وهو على باب الشقة ونظر لها قائلاً: هذا شعر «أمل دنقل».. يا ست عزيزة! تمتمت بكلمات غاضبة بعد تحذيرنا بعدم تكرر هذا مرة أخرى حتى تنام. ثم قالت وهى تغلق باب الشقة: «بلا أمل.. بلا عمر»..ثم قالت وعلى وجهها حالة غضب: من أين سيأتي الأمل.. واليأس يسكن كل حياتنا؟! ومنذ تلك اللحظة ظل شعر «أمل دنقل» مصاحباً لى، لا يفارقنى، يدهشنى، يؤرقنى، يحملنى دائماً، إلى عالمه الشعرى، السحرى، الفلسفى غير المسبوق. بعد سنوات عرفت من صديقى أن الست «عزيزة» أعجبت كثيراً، بشعر«أمل دنقل».. ثم ماتت!

***

( القاهرة – صيف 2018)

بعد مرور كل هذه السنوات، التقيت الكاتبة الصحفية «عبلة الروينى» التى تزوجته عام (1979) فى مكتبها فى مؤسسة أخبار اليوم. جلسنا بعض من الوقت. قلت لها أعرف أنك على مدار ما يقرب من 33 سنة تقريباً تتحدثين عن «أمل دنقل» الشاعر والحبيب والزوج. وأعرف أيضاً أنك – ونحن – سنظل نتحدث عنه، مثلما نتحدث عن المتنبى. أبى العلاء المعرى. وآرثر رامبو. وكل عباقرة الشعر فى العالم. هزت رأسها. ثم توقفنا عن الكلام عندما جاء عامل البوفيه. طلبت “شاى” وهى اكتفت بالماء. الآن تُمسك أمامى، بصحيفة «أخبار الأدب» التى رأست تحريرها فى عام 2010 ثم أقالها الإخوان فى عام مرسى من رئاسة تحريرها. تحدثنا كثيراً فى موضوعات مختلفة من الثقافة إلى السياسة. وتحدثنا عن «أمل دنقل» الحبيب، والزوج، والمريض قليلاً، ربما لإحساسى أنه رغم مرور كل هذه الأعوام على رحيله، مازال يسكن قلبها وعقلها. لم تتخلص من أنفاسه. فهو رغم الرحيل يسكن تحت جلدها. تتنفسه. تحدثه. تناقشه. تتشاجر معه. تضحك. تغضب. وهو صامت يعشق الصمت حياً وميتاً!

***

“هذا هو العالم المتبقى لنا: إنه الصمت

والذكريات السود هو الأهل والبيت

إن البياض الوحيد الذى نرتجيه

البياض الوحيد الذى نتوحد فيه:

بياض الكفن!»

.. هذه هى فلسفة الحياة من وجهة نظر الجنوبى

***

(مستشفي العجوزة- 1979)

نحن الآن فى منتصف شهر سبتمبر. داخل غرفة بقسم الجراحة فى المستشفى التى تقع على نيل القاهرة . يحيى الطاهر عبد الله، أحد أقرب الأصدقاء إلى قلبه. يتحرك بانفعال.. صمته كلام.. عيناه ذائغتان.. متوتر. يقترب من سرير أمل وهو ممدد على السرير بعد إجراء العملية الجراحية الأولى، التى جاءت بعد تسعة شهور من زواجه. الطريق نحو الموت بدأ من هنا، من مستشفى العجوزة.. ورم صغير فى جسده، يتزايد يوماً بعد يوم . بعد ثلاثة أيام أكد الطبيب أن المرض خبيث (سرطان)! يحيى يقف بجواره ينظر فى عينيه كثيراً، ثم يخرج من الحجرة. يقول: «لماذا ينبغى أن يموت أمل بينما يظل (أولاد الكلاب) أحياء»! قالها ثم بكى وخرج ولم يعد. تلك اللحظات تتذكرها «عبلة الروينى» وسجلتها أيضاً فى كتابها المدهش «الجنوبى» ثم تكمل: بعد خمس شهور من العملية الأولى، ظهر ورم سرطانى جديد. وفى فبراير 1982 كشر المرض على أنيابه. انتشر فى الجسد كله. يومها قال الطبيب فى حدة قاسية: المرض منتشر منذ أكثر من عام. وأنت لا تأتى لمتابعة الكشف. تذكر أنك مريض بالسرطان. الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعر!

والحل؟ قال الطبيب: تذهب غداً إلى معهد الأورام. أنا بكيت.. وأمل التزم الصمت!

بعد مرور سبعين يوماً من دخول أمل المعهد مات «يحيى الطاهر عبد الله» فى حادث سير على طريق الواحات. علم “أمل” بالنبأ – هكذا تتذكر – ومرة جديدة عاد للصمت. لم يشارك فى أى مراسم. لم يسأل عن إجراءات الدفن أو العزاء. لم يتحدث عن موت صديقه لكنه بكى.. بكى بشدة. وهذه هى المرة الأولى فى حياتى التى أراه فيها يبكى.

***

( مبنى مؤسسة أخبار اليوم – الدور الثامن)

أنا مازلت أجلس فى مكتبها. ساعى المكتب جاء إليها يحمل صحيفة “أخبار الأدب”. سألته: هل هذا العدد الجديد؟ مد يده بالنسخة إليها قائلاً: نعم. أخذتها بسعادة واضحة وطلبت منه نسخة لى. والساعى استجاب!

***

(القاهرة- مبني معهد الأورام)

بعدما فرغت من احتساء فنجان الشاى، انتقلت معها إلى الدور السابع فى المعهد القومى للأورام وذكريات الغرفة رقم 8. تقول: هذه الغرفة تعد هى أول سكن حقيقى لنا. حيث امتدت إقامتنا فيها لأكثر من عام ونصف. الغرفة بها منضدة. جهاز تلفزيون. وكاست. وكتب. وأوراق. وأقلام. على الحائط المواجة لسريره، صورة يحيى الطاهر عبد الله. على الجدار الآخر بطاقة من ياسر عرفات تحمل أمنيات المقاومة الفلسطينية له بالشفاء. فى الغرفة أيضاً مساحة لطفلين هما أسماء يحيى الطاهر عبد الله وهى تلهو حولنا، فيبتسم أمل. والطفل الآخر اسمه كريم كان مريضاً بالسرطان. ذات صباح تسلل – هذا الطفل – إلى الغرفة وتصاحب مع “أمل”. أذكر فى ليلة ما، وجدته، يبكى بشدة، ويسأل: ما الذى جناه طفل فى الرابعة، ليسكنه هذا العذاب؟ قلت: يا أمل لن نبكى بعد اليوم. لابد أن نحاصر أنفسنا بالتفاؤل. ابتسم ثم قال: منذ متى وأصبحت حكيمة؟ قلت: منذ أن جاورت الحكيم!

***

قلت لها: أظنه وهو فى الغرفة رقم (8) لم يكن يرى إلا شيئين هما «الموت» و«عبلة».. أليس كذلك؟

قالت: لم يخفْ الموت أبداً، رغم أنه -أى الموت- كان يقتسم معه السرير، والوسادة، والملاية البيضاء، التى يتدثر تحتها.. ذات يوم كنت خارج الغرفة. والشاعر الصديق عصام الغازى كان معه. يومها انفجر أمل متسائلاً: لماذا يهاجمنى الموت فى زمان الفرح والهدوء؟ لماذا أصاب بالسرطان فى عام زواجي؟ لو سألتنى عن الموت – هو يسأل والصديق صامت – فأنا لا أغشاه. ولكن أكثر ما يعذبنى فى موتى هو بكاء أمى، وعذاب عبلة! الصديق لم يحتمل. ترك الغرفة والمعهد. وخرج وهو يبكى ولم يعد!

***

( مبني أخبار اليوم – الدور الثامن)

«وينزل المطر

ويرحل المطر

والقلب يا حبيبي

مازال ينتظر»!

… وأنا مازلت انتظر فى مكتبها عامل البوفيه الذى جاء قبل قليل. وطلبت منه فنجان قهوة آخر. الآن جاء مسرعا،ً ووضعه باستعجال. قلت لها: هل انتظر قلبه 38 عاماً حتى يلتقى قلبك ويحبك؟

قالت: عرفته فى أكتوبر 1975 بعد رحلة بحث طويلة وشاقة على مقاهى وسط البلد. أنت تبحث عن شاعر ليس له عنون. وليس له رقم تليفون. وليس له عمل وليس له أصدقاء أعرفهم.. ينام بالنهار ويسهر الليل. بصعوبة عثرت عليه فى دار الأدباء فى ندوة الأربعاء الأسبوعية. أثناء رحلة بحثى قالوا: ستجدينه سليط اللسان. خشناً. عنيفاً. صدامياً. بعضهم قال: هو (غراب) وأنت (يمامة). هم قالوا ما قالوه. أما أنا فمنذ اللحظة الأولى رأيته جميلاً، صادقاً، موهوباً، مخلصاً، وأميناً. يحب العدل ويكره الظلم. يعشق الحرية ويرفض القيد. هو مختلف عنهم، يتكلم لغة ليست لغتهم. ومنذ اللقاء الأول بيننا سقطت كل المسافات والإدعاءت والأقنعة، وبدا لى وجه صديق أعرفه منذ زمن.

بعدما تعرفنا كتب لى رسالة قال فيها: لو لم أكن أحبك كثيراً، لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة. ومن هنا كانت البداية من قلبه ومن قلبى. سألنى ذات مرة: هل أراك غداً؟

قلت: بالتأكيد.. لقد أحببتك! كان يومها خجولاً، ومرتبكاً. ولم يعلق بكلمة واحدة. كنت صحفية لم أعين بعد فى صحيفة الأخبار، فقررت أن أذهب لإجراء حوار صحفى معه. الحوار نشر فى 11 ديسمبر 1975 فى هذا الحوار قال: إن الشعر مكانه موقف المعارضة، حتى لو تحققت القيم التى يحلم بها الشاعر؛ لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل.

***

(مبني معهد الأورام – الدور السابع)

عندما فرغت من فنجان قهوتى. كانت هى أغلقت صحيفة أخبار الأدب.. وعدنا مرة أخيرة إلى الدور السابع بمعهد الأورام. هنا الغرفة رقم (8). الموت يقف بجوار أمل مبتسماً. أمل ممدد على سريره مستسلماً. الموت يقترب.. لا.. أنه بالفعل اقترب.

انهارت المحاليل، والتحاليل، والأدوية أمام تلك اللحظة. الموت ربما لا يعرف الآن أنه فى حجرة أحد أكبر شعراء مصر والوطن العربى. شاعر الحق والحرية، والجمال، والرفض والإنسانية.

***

(الدور السابع – الغرفة 8)

“أمل” ينظر للموت بلا خوف. الأهل والأصدقاء وجماهير الأمة العربية، يرسلون له الدعاء والكلمات: “يا أمل لن نراك مريضاً”. ويرددون ما كتبه يوسف إدريس فى الأهرام: «بالله يا أمل لا تمت.. فكلنا فداؤك». أمل.. بقدر ما يستطيع يستجيب ويقاوم. الوقت يمر. الموت يقترب.. قبل وفاته بساعات زاره «ناصر الخطيب» مدير مكتب جريدة الرياض بالقاهرة فى ذلك الحين.. مَالَ عليه باكياً، واقترب من أذنه هامساً: قاوم.. يا أمل!

الآن فاق “أمل” من الغيبوبة لحظات، وبصعوبة نطق:

«لا ملك سوى المقاومة»!

الساعة الثالثة صباحاً – كما تقول عبلة الروينى- نظر لى.. ولم يكن يقوى على الصراخ.. عيناه كانت تطلبان الراحة.. بعد دقائق أغمض عينيه فى هدوء. ودخل فى غيبوبة أخيرة. بعد خمس ساعات من تلك الغيبوبة كان وجهه هادئاً. وجسده مستسلماً، بعدما قال للمرة الأولى فى حياته: نعم! قالها فقط للموت! لقد مات وعمره 43 عاماً، لكنه عاش ألف عام!

***

( القاهرة – 21 مايو 1983)

الآن …… الآن …….. الآن …..!!

الآن.. مات أمل دنقل.

.. «فلا نامت أعين الجبناء»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى