في ذكرى وفاة الشّيخ الحاج  عمر بن يحي

الدّكتور  محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر 

أصيبت مدينة القرارة سنة 1921م بوباء الطّاعون، الذي حصد ضحايا كثيرة.. من بين من تُوفّوا به السّيّد عمر بن بابه بيّوض والد إمامنا الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض رحمهما الله.. وأستاذه الشّيخ الحاج عمر بن يحي ويرو الحاج يحي (الامليكي) رحمه الله.. خيّم على القرارة ذهول كبير، وانتشر الذّعر بين النّاس وعاشت الـمدينة أيّامًا سوداء..وثّق الشّيخ إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان هذا الحدث بقصيدة مؤثّرة، تعدّ اثنين وستّين بييتًا (62) عنواانها: ” دمعة حارّة على القرارة “. منها هذه الأبيات: 

أَمِنَ   الضّنَا  دَمْعُ   القـــــــــــــرارةِ  جارِ

 

وَبَدَتْ  لَهُ     فَوْقَ     الـخُدودِ  مَـجَــارِ

أمْ   للـخُطوبِ     تَسَلْسَلَتْ،  وَتتَابَعَـت

 

وَتَـحَالَفَتْ    فيهَا  مَع   الأَخْطَــــــــــارِ

أمْ  للدَّوَاهِــي   وَالكَوَارِثِ   وَالشَّقَـــــــا

 

وَالبُؤْسِ  إِذْ  حَاقَتْ  بِـــهَا     كَالنَّـــــارِ

أَمْ لِلبَلَايَـــــا   وَالرَّزَايَـــا    وَ الــمَنَــــــــا

 

ياَ  وَالرَّدَى  وَالـمَحْـــــقِ  وَالِإْنــــــــذَارِ

مُنيَتْ  بِـهَا  مَعَ ضُعْفِهَا   وَنُـحُولِـهَــــــــا

 

فَاسْتَسْلَمَــتْ    لأَوَامِــــرِ   الأَقْـــــدَارِ

أَنْفاسُهَـــــا  اخْتَنَقَتْ  بِغَازَاتِ  الوَبَـــــــا

 

والدّاء ُ في جِسْمِ   الكَسِيفَةِ    سَــارِ

رُزِئَتْ  بِعُمْدَتِهَا الذِي    ضَحَّى     لَــــهَا

 

عُمْرًا  لَهُ   مِنْ   أَثْــمَنِ  الأَعْمَــــــــارِ

هَذَا  قَضَـــــاءُ      اللهِ   نفّذَ   كَــــــــــمْ

 

للهِ  فِي  ذَا  الكَوْنِ  مِنْ  أَسْــــــــــرَارِ

عَنْ  كُلِّ   شَهْرٍ  مِنْ   ثَلَاثَةِ    أَشْهُــــرٍ

 

مِائَةٌ  مِــنَ  ا لأَزْهَــــــارِ   وَالأَقْمَــــــارِ

مَاذَا  مَصِيرُ  البَلْدَةِ   الصُّغْــــــرَى  التي

 

رُزِيَتْ  بِنِصْفِ   العُشْرِ    بِالـمِقْــــــدَار

…إِنَّ  القَـــرَارَةَ  بَلْدَةٌ   مَكْسُوفـَــــــــــةٌ

 

تَرْثِي  شَجَاهَـــــا  قَسْوَةُ  الأَحْجَـــــارِ

(ينظر ديوان  أبي اليقظان، ج1، ص: 177 – 179)

الشّيخ الحاج عمر بن يحي الذي توفي يوم 27 من رمضان 1339ه/ يونيو 1921م.. شيخ القرارة الذي أحياها بالعلم.. هو تلميذ الشّيخ الحاج امحمد بن يوسف اطفيش (ت 1332ه/ 1914م). اشتغل بالتّجارة وهو شاب (في مدينة خنشلة بالشّرق الجزائري)، غير أنّه لم ينسجم معها ولم يأنس لها، فتركها ورجع إلى مدينة القرارة ليتفرّغ للتّعلّم، فدرس فيها ثمّ في مدينة غرداية ثمّ في مدينة يني يسجن.. وكلّها قرى في منطقة وادي مزاب بالجنوب الجزائري.

هو في معهد شيخه الحاج امحمد اطفيش، أرسل أعيان القرارة إلى الشّيخ  طفيش طلبًا، أن يرسل إليهم من تلاميذه من يعلّمهم ويفقّههم في الدّين.. نظر الشّيخ في الأمر وفكّر ولم يجد أفضل من تلميذه وابن القرارة عمر بن يحي، ليكون هو من يقوم بالـمهمّة.. فناداه وطلب منه الرّجوع إلى القرارة للتّعليم والتّدريس. فوجئ التّلميذ بطلب شيخه، بل بأمره.. فاضطرب واهتمّ من الأمر، فقال لشيخه معتذرًا: أنا لا أملك من العلم إلاّ قليلا، وأرغب أن أُكمل دراستي.. أنا لست أهلا لـما طلبت منّي.. أجابه شيخه بجنكة المربّي والأستاذ التي يعطي الثّقة في تلاميذه، وبقوّة إيمان المؤمن الواثق أنّ الله يكون معه ينصره ويؤيّده في عمله، ويهديه ليجبر نقصه، ويعينه ليزداد علمًا مع الأيّام؛ ما دام في القلب إخلاص، وفي العمل صدق، وفي النّفس استعداد لطاعة وليّ الأمر.. أجابه: اذهب يا بنيّ فإنّ الله سيجعل البركة فيما عندك من علم.

استجاب التّلميذ عمر بن يحي لأمر شيخه، واصطحب معه ما قاله له. فرجع إلى القرارة.. وشرع في التّعليم، وفتح معهدًا لذلك، وباشر عمله. مرّت الأيّام وبدت نتائج  عمله تظهر، وبدأت القرارة تتنفّس أجواء العلم، وتتنعّم بنوره..

 ذاع صيت الشّيخ الحاج عمر بن يحي، فقصده طلبة من خارج القرارة للتّعلّم.. تطوّر الأمر فأصبح هو يرحل بطلبته خارج القرارة لنشر العلم، كما كان يفعل في السّنوات الأخيرة من عمره في الرّحلات التي كان يقوم بها إلى مدينة ورجلان.. وكانت كلّ رحلة تدوم أكثر من شهرين.

يكفي دليلا على آثار تعليمه مَنْ تخرّج في معهده من العلماء الأعلام الذين كانت لهم أدوار كبيرة في نهضة الجزائر الحديثة، أمثال المشايخ: إبراهيم أبو اليقظان، إبراهيم بيّوض، إبراهيم بن بكير حفّار، ويوسف بن بكير حمّو وعلي، وعبد الله بن إبراهيم أبو العلا، إبراهيم بابا حمّو (أعزام)، وعدّون بن بالحاج شريفي، والحاج عمر بن الحاج محمد بوحجام، والحاج بكير بن إبراهيم العنق (أسد القرارة)، والحاج محمد بن حمّو، ابن النّاصر(مؤذّن مسجد القرارة).. وغيرهم.

أثره كان بارزًا في الجانب الاجتماعي، بدروسه التي كان يلقيها في مسجد القرارة، وبلقاءاته مع أفراد المجتمع في مختلف المناسبات، وفي توحيده أبناء القرارة، وقدرته ودرايته في حلّ المشاكل.. كان الشّيخ إبراهيم بيّوض يردّد علينا مرارًا: ” أستاذي في الاجتماع هو الشّيخ الحاج عمر بن يحي”. يعني أنّه تعلّم منه الكثير في الـمجال الاجتماعي، بكلّ ما يتطلّبه العمل الاجتماعي من دراية وحنكة وتجربة وقوّة في تنظيم المجتمع وتسييره.

لتواضعه كان يعترف لتلاميذه أنّه لم يتمكّن من تقديم العلم الكافي لهم.. فكان يقول لهم عملي معكم يشبه عمل شخص رأى حديقة مسوّرة بها أنواع كثيرة من الثّمار  والفواكه.. لكنّه لا يستطيع تسلّق السّور ليدخل الحديقة فيستفيدَ من ثمارها. فاستند إلى الجدار وقال لشخصٍ: اصعد فوق كتفي وانظر ماذا في هذه الحديقة واحرص على الاستفادة منها. هكذا كان عملي معكم، إنّي بيّنت لكم أهميّة العلم، وفتحت شهيّتكم له فقط، فأنا لم أقدّم لكم العلم.. فقصارى ما أملكه من جهد وقوّة أنّني أعطيتكم المفاتيح التي بها  تفتحون خزائن العلم.. فسيروا وامضوا واستزيدوا.

إذا ربطنا بين ما قاله لشيخه الحاج محمد اطفيش قبل أن ينطلق في ميدان التّعليم، وما قاله بعد ما سار في مضماره. ندرك شخصيّة العالم الذي يتواضع للنّاس بعلمه، ويقدّم للنّاس نفسه بأخلاقه.. لكلّ هذا كان رجلا فاضلا وشيخًا محترمًا.. ولـهذه الصّفات لقّبه تلميذه الحاج بكير العنق بــ ” نور القلب “، وعرف بهذ اللّقب في المجتمع القراري.

هذه المكانة الكبيرة التي أحلّته بها أعماله وأفضاله في قلوب العارفين الفضلَ لأهله، والأثر الكبير الذي تركه في المجتمع.. جعلت النّاس لا يصدّقون برحيله عنهم لـمّا حانت وفاته بداء الطّاعون، وكانت القرارة كلّها تبكي لفراقه لهم، وكان تلاميذه بخاصّة الأكثر تأثّرًا، فكانوا يقولون من لنا بعد شيخنا؟ من الذي سيعلّمنا.. لقد ضعنا وتُـهْنا وضاعت القرارة..

هذه الحال المحزنة  هي التي دفعت بتلميذه الشّاب إبراهيم بيّوض ليتناول الكلمة في جنازته، فيخطب في النّاس خطبة تاريخيّة، ليخفّف عن النّاس وطء المصيبة، وأثر الرّزية.. فقال من جملة ما قال بعد أن عزّى القرارة في مصابها الجلل.. وطلب الرّحمة والمغفرة لشيخه..: إنّ شيخا ربّانا لمثل هذا اليوم، علّمنا لنمسك الرّاية بعده، ونواصل مسيرته، فبقدر ما نحزن على وفاته وفقده، فإنّه يجب علينا أن نتجلّد ونتشجّع لنقوم من هذا المأتم أقوياء لنواصل رسالته..

الموقف الذي وقفه تلميذِ الشّيخ الحاج عمر هو إحدى ثمرات غرسه الطّيّب، التي أتت أكلها طيّبًا والحمد لله، فأوقفت تلميذه ذلك الموقف التّاريخي الذي أنقذ النّهضة العلميّة في القرارة من الانتكاسة، بعد انتعاشها بجهود شيخها الحاج عمر بن يحي.

كتب الشّيخ إبراهيم أبو اليقظان قصيدة في سبعة وأربعين بيتًا (47)، عنوانها:” مصاب القرارة العظيم”، يرثي شيخه، سرد فيها مجموعة من الأعمال والـمبرّات التي قدّمها للقرارة؛ لذا تأثّر الجميع لرحيله.. هذه أبيات من القصيدة:

يَا  دَهْرُ  هَلْ  في  هَذِهِ     النّكبَــــات

 

لَكَ مِنْ مَرَامِي السُّوءِ   أَوْ غَايَــــــاتِ؟

…فَجَعْتَ  بِـهَذَا  اليَوْم ِ   في    أَبْنَائِهَا

 

وَبَنَاتِـــهَا   في   أَعْسَرِ  الـحَــــــــالَاتِ

بَلْ  في سَعِيدِ زَمَانِـهَا وَعَـمِيدِهَا   الرْ

 

رُكْنِ الغَيُورِ  الشَّهْمِ     ذِي الـحَسَنَاتِ

بَلْ  في  سِرَاجِ  فُؤَادِهَا   وَمَنَارِهَـــــــا

 

وَإِمَامِهَا   ذِي  الفَضْلِ      والبَـــــرَكَاتِ

بَلْ  فِي  مُرَبِّيهَا     وَمُنْقِذِهَا     وَمُصْــ

 

ــلِحِهَا   وَ مُرْشِدِهَا     بِكُلِّ   ثَبَـــــاتِ

بَلْ  شَيْخِهَا  الأَسْـمَى وَمُفْتِيهَا    مَعًا

 

وَنَصُوحِهَا  فِي  سَائِرِ  الــــــــــــحَالاَتِ

رُزِئَتْ  بِهِ  فِي  لَيْلَةِ   القَـــدْرِ  التي

 

فَتَحَتْ  لَهُ  بَابًا  إلى  الـجَنَّـــــــــــــات

رُزِئَتْ بِهِ فِي  السَّبْعِ  وَ العِشْرِينَ  مِنْ

 

رَمَضَانَ  شَهْرِ    الفَضْيِل  وَ   القُرُبَــاتِ

…فَتَزَلْزَلَتْ  أَرْكَانُـــــهَا   وَ تَـمَايَلَــــــتْ

 

شُرُفَاتُ   عِزَّتِـــــــــــهَا   إلَى  مِهْــوَاةِ

وَ تَصَدَّعَتْ  عَرَصَاتُـــــهَا  وَتَنَكَّبَـــــــــتْ

 

هَامَاتُـــهَا  مِنْ  شِدَّةِ  الصَّدَمَــــــــاتِ

…فَالكُلُّ   يَبْكِي لَا     لِطَيْفِ     خَيَالِهِ

 

لَكِنْ  لِسِرٍّ ،  فِيهِ   رُوحُ  حَيَــــــــــــاةِ

ضَحَّى  نَفِيسَ  حَيَــــــاتِهِ  فِي بَثِّهَــــا

 

بِنُفُـــــوسِ  نَشْءٍ  مُـخْلِصِ  النِّيَّـــــاتِ

بَذَرَ  البُذُورَ   النَّافِعَاتِ،     فَغَابَ    مِنْ

 

قَبْلِ  اقْتِطَافِ  لَذَائِذِ  الثَّمَــــــــــــــرَاتِ

جمَع القُلُوبَ وَأَلْـحَمَ   الصَّدْعَ     الذِي

 

بَيْنَ  النُّفُوسِ  وَضَمَّ  كُلَّ   شَتَـــــــاتِ

وَدَعا  إِلَى الإِصْلَاحِ      بِالوَجْهِ   الذِي

 

يَـــحْذُو  حِذَاءَ  الدِّينِ  وَ   العَــــــــادَاتِ

قَدْ  كَانَ  كَهْفًا  لِلقَرارَةِ،  بَعْدَماَ   انـْــــ

…قَدْ كَانَ بَدْرًا  تَسْتَضِيءُ    بِنُــــــورِهِ

 

هَدَّتْ    كُهُوفُ    الفَضْلِ    وَالـخَيْـرَاتِ

بَعْدَ العَشِيِّ وَالـخَبْطُ  في الظُّلُمَاتِ

بَلْ ” نورُ قلبِ” جَلَالِــها وَ  كَمَالِـــــها

 

وَجَــمَالِـــهَا، بَلْ  عَيْنُ  كُلِّ  هُـــــــدَاةِ

(ينظر ديوان أبي اليقظان، ص: 181 – 183).

       رحم الله شيخنا الحاج عمر واسكنه فسيح جنّاته

                                            الجزائر  يوم الأربعاء: 27  من   رمضان   1441ه

                                                                   20  من   مايو      2020م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى