انتفاضة كوكب.. رُبَّ ضارة نافعة

الكاتبة المغربية| بشرى بوغلال

منذ الأزل وقبل ملايين السنين، حيث وجد الإنسان على كوكب الأرض إلى حدود القرن الخامس عشر، ظلت البيئة والمناخ على حالهما ولم يتعرضا لأي عوامل خارجية أو بشرية تهدد سلامتها.
بيد أن الثورة الصناعية في القارة العجوز كانت بمثابة العد التنازلي للبيئة العذراء والمناخ البكر ، حيث بدأ هذا الأخير في التدهور والإضطراب وذلك بسبب مخلفات هذه النهضة الصناعية التي جاءت في هيئة وحش من وحوش الخيال العلمي، حاملة في جنباتها كل مظاهر التلوث وكأن هدفها الوحيد هو النيل من صفاء عالمنا وتدميره من دون أوجه للحق.
ففي ظل إزدهار الصناعات وانتشار المعامل والوحدات الإنتاجية الكبرى في مختلف دول العالم والمتطورة منها على وجه الخصوص، فمنذ تزايد الطلب على الإنتاج الصناعي وعالمنا يرتقي سلم التطور والعولمة درجةً ،ويسقط نحو الهاوية درجاتٍ في مشاهد مسلسلٍ تراجيدية تدفع فيها البيئة والمناخ ، على حد سواء ثمن الثورة الصناعية الكبرى والتقدم العلمي الرهيب الذي واكب عصر الإختراعات المتثالية إلى يومنا هذا.
ليظهر عدو خفي في الواجهة، بعدما أمِنَتِ الأرض من شره لملايين السنين، قادما إثر دعوة ملحة ومع سبق إصرار وترصد من بني البشر وثورتهم التيكنوصناعية ،مُلَبياً النداء في زيارة غير مرغوب فيها لكوكبنا الأم.
فما كان لهذا الزائر المدمر سوى أن يباشر أعماله التخريبية بحق بيئتنا ومُناخنا الذي تضرر كثيرا من جراء بطش هذا الوحش الذي كان نِتاجاً للكثير من التطور الصناعي والنمو الديموغرافي، الذي تمثل في الزحف العمراني لكُبريات المدن نحو الأراضي الغابوية والمساحات الخضراء التي هي بمثابة رئة هذا العالم ومُتَنَفَّسِهُ .
ومع تزايد الكثافة السكانية واغتصاب الأيادي الآثمة للغطاء الغابوي من أجل توسيع رقعة مدنهم الذكية، والتي لم تعد تسع الأعداد الهائلة من السكان، منتهكين حرمة المكان ومعتدين على جماليته الربانية التي أوجدها الله منذ خلق السماوات والأرض.
فلقد كان لهذا التطور الملحوظ، والاختراعات المتتالية وكذا التقدم الصناعي أثارا وخيمة بسطت ظلالها السوداء على كوكبنا الأزرق وألقت عليه لعنة الإحتباس الحراري، في تعويذة عنوانها “ضريبة التطور والثورة الصناعية “
فهذا الشيطان الرمادي المسمى بالإحتباس الحراري عبارة عن ارتفاع في درجات الحرارة، انطلاقا من سطح الأرض إلى الغلاف الجوي المحيط بها، نتيجة لإرتفاع مهول في نسبة الغازات الدفيئة المدمرة التي تتمثل عادة في غاز ثاني أوكسيد الكربون، وكذا غاز أوكسيد النيتروز، والحلقة الأقوى و الأشد فتكاً المتمثلة في غاز “الكلورفلوركربون ” ذلك المدمر الشرس الذي تقمص دور أقوى آليات الحفر، مخترقا غلافنا الجوي ومحدثا شرخا كبيرا وثقبا فضيعا في طبقة الأوزون ،التي كانت ولا زالت الحامي الأكبر للكوكب الأزرق وسكانه من الأشعة الكونية والعواصف الشمسية.
كما تشكل درعا ضد النيازك والشهب الفضولية التي تأتي في رحلة إلى الأرض ومن دون تذاكر عودة.
وفي ظل هذا الإكتساح الدفيء لبيئتنا و مناخنا وإصراره الشديد على إلحاق الأذى بعناصر الطبيعة المتجلية في البحار والمحيطات ونقص كبير في التساقطات المطرية التي أثرت على اعتدال ورطوبة الجو، مما ضاعف فرص اشتعال النيران التي تأتي على الأخضر واليابس ملتهمة آلاف الهكتارات من الغابات حول العالم، في صورة مصغرة للحجيم على الأرض.
مما يساهم في انبعاث كميات مضاعفة من الدخان المحمل بالغازات السامة والدفيئة، نحو الجو الذي يبدو بعد كل كارثة، كمارد رمادي تكاد قهقهاته الشريرة تبث الرعب في أوصال عالمنا الذي وللأسف الشديد فقد جزءاً كبيرا من قطبيه المتجمدين، في ذوبان ثلوج غير مسبوق، واختفاء كامل لأنهار جليدية كانت في السابق ضاربة في العمق حيث تم تعطيل وظيفتها الطبيعية في كونها مكيفا ضخما للعوالم المجاورة وذات المناخ الصحراوي.
فلم يكتفي هذا المعتدي الأثيم بكل ذلك الخراب الذي أحدثه، بل وألحق الضرر بالأنظمة المناخية حيث أحدث خللا كبيرا في درجات الحرارة ، وتقلصا مفرطا في كمية الأمطار وارتفاعا ملموسا في درجة حرارة البحار والمحيطات الذي أثر سلبا على الأحياء المائية ،واضمحلال الشعاب المرجانية وكذلك نفوق الكثير من الكائنات البحرية وانتحارها في لمحات مأساوية تدمي القلب.
وما خفي أعظم حيث شهد العالم في العقود الماضية أشد الكوارث الطبيعية والأعاصير التي ثارت في وجه البشر، منتفضة لتعبر عن سخط الطبيعة وغضبها من الذين كانت لهم الحضن الدافئ والملاذ الآمن، في محاولة منها لتهذيب سلوكياتهم وسعيهم اللاهث وراء المادة وتحقيق الأرباح على حسابها.
فما كان لبيئتنا المغتَصَبة سوى الثوران كَبُركَانٍ جبار معلنة القصاص من مدمريها الجشعين في حرب مستحقة من عواصف هوجاء، وأعاصير عنيفة أتت على مدنٍ بأكملها فأمست ولم تصبح، محققة أشد انتقام من بني جلدتنا.
وفي ظل الإقبال الكبير على استخدام وسائل النقل والمواصلات والتي تعتمد بشكل أساسي على الوقود الأحفوري ،أصبحنا نشهد أمطارا حمضية تفسد كل شيء في طريقها نحو المياه الجوفية، محدثة بذلك تلوث ملايين أمتار المكعبات من المياه الصالحة للشرب، والتي أصبحت عملة نادرة في مختلف بقاع المعمور، مسببة نقصا كبيرا في هذه المادة الحيوية، التي بدونها تختفي كل مظاهر الحياة على الكوكب.
ومُسَرِّعةً لزحف الرمال على الأراضي الزراعية، وفاتحة الباب على مصراعيه لظاهرة التصحر الخطيرة.
لتطلق الأرض أقوى صرخة استنجاد تردد صداها مخترقاً المدى، فتستجيب بذلك أصغر الكائنات المجهرية لنداء كوكبنا الأم في ما يشبه زوبعة صامتة من فرق التدخل السريع تحت قيادة كوفيد ١٩.
والذي استطاع بطرق وأساليب مخادعة تضاهي جبروت الإنسان، وتفوق قدرته على البطش كابتا جِمَاحَنا، و معلناً عن دخول عالمنا وكرتنا الأرضية في إجازة إستشفائية طويلة الأمد حتى إشعار آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى