نوستالجيا شعرية .. للشاعر زكريا الغندري

فيصل نهار-شاعر وناقد يمني

 

ليلاي يا وجعاً
كم بات ياخذني
ويا ابتسامة فجرٍ شاءها الوعدُ

هكذا يفتتح لنا الشاعر قصيدته التي تشبه الى حد كبير الإضاءة السينمائية بدائرة قطرها يتسع لاثنين فقط ومادنهما ظلمة وعتمة وهباء !! ولم لا ألم تكن ليلاه هو وهو فقط ..لقد أضاف الشاعر ياء النسب والمعية وكأني به يقول: ليلى لي وليست لأحد لذا يحرم التحدث عنها بشيءٍ وكأنها غيرة محب ..
لا أخفي القارئ الكريم أن من يحاول استكناه مابين سطور قصائد شاعرنا زكريا الغندري ليس بالأمر السهل ليس لأن حرفه معقد بل بالعكس لأنه جمع مابين السهل والممتنع الماتع وهو مايغريني كقارئ أن أسبر غور حرفه ولو بمستواي المتواضع ..ذلك لأن في قصائده عمقاً وطراوة ومعان جميلة تجعل القارئ أمام شاشة القصيدة متسمرا لايقتنع بأن يقرأ مطلعها فقط بل ليرتشفها حرفا حرفا كما ترتشف في صباح جميل قهوتك المحببة إليك ..
لكنه يوضح بأسلوب العاشق الكتوم الذي يبرر توجعه بأن ليلاه هي داؤه ودواؤه فيقول :
(ياوجعاً) ..هذا الوجع الذي كان يوما ما ممثلا في الابتسامة التي كانت تضفي على حياته السعادة .ثم انقطعت كما يقطع الليل النهار… إنه الحب الذي شاءته الأقدار .
كانت عيده ولو في غير مواسم الاعياد وبحسب قلب المحب فإن حرفه ينكر (ولو من وجهه نظر العاشق) بأن هناك عيد يستحق أن يسمى بالعيد مالم تكن محبوبته هي من تضفي عليه البهجة والجمال والسعادة بابتسامتها المعهودة له وحده !!
وكأنها أفروديت الحب التي تزهر الدنيا إذا حلت على جبل أكاديميا الشامخ في فؤاده ..
إننا أمام مشهد دراماتيكي يطغى عليه الجو الرومانتيكي الأخاذ ..

ما كان للعيد
ان ياتي وانت هنا..!
ما زلت غائبة يلهو بكِ السهدُ

هل كانت ليلاه تعاني مايعاني من سهد وحزن ونكران للذة العيد ؟ نعم وهو مااثبته الشاعر في البيت نفسه ( مازلت غائبة يلهو بك السهد) ..
إذاً .. يحاول الشاعر أن يثبت لنا بأنها تبادله الحب بل وفي الحالة الغرامية التي يعيشها وهو مايقطع الطريق على القائلين بأنه حب من طرف واحد كما يحدث عادة في المجتمعات الذكورية ..

ما كان للحب
ان يسمو بروعته ..
في زحمة الشوق في قلبي الذي يشدو

وكأنه يقول ليس للحب حق في السمو والروعة مالم يكن منك وهو امتثال محبب من العاشق المجنون بمحبوبه وصورة أصيلة في القصيدة العربية من امثال قول ابن الفارض :
لي حبيب حبه بين الحشا
إن يشا يمشي على روحي مشي
وغيره كثير من الشعراء العباسيين الذين ساروا على هذا المنوال ..إلا أن الاختلاف هنا أن شاعرنا في شدة شويه لمحبوبه كان يشدو باسم محبوبه ربما أو يشدو بأشعار الذكرى الحبيسة والتي تسمى في علم النفس بــ ( النوستالجيا) وهي حالة من استحضار الصور المحببة للنفس وهو تقريبا ماكان من المعنى العام للقصيدة..

امارس الحلم يا روحي وبي ظمأ
إلى لقائك كم أسعى وكم أعدو

إنه ظمأ القلب الذي لايروية إلا زورة من حبيب ذهب وترك مستهامه بلا عيد ولا عيش هني ..
لكن كلمة أمارس .. كنت أتمنى أن يعيد النظر فيها فالحلم ليس ممارسة بل شعور مطلق بدون أي تعلم له ..وارجو من شاعرنا أن يتقبلها مني ..

وحدي وليلة عيدِِ
في انتظاركمُ
متى يطوف بنا إلإيناسُ ياوجدُ ؟

أما هذا البيت فهو بديع بكل المقاييس الفنية والصرفية والابداعية ..فقد رسم صورة ميلودرامية رومانتيكية لأنه ينتمي للمدرسة الرومانتيكية التجديدية الحديثة ..يشبه فاروق جويدة ومن سار على أسلوبه في هذا المضمار ..
وكاننا أمام مشهد يظهر فيه العاشق وهو يذرع الشوارع جيئة وذهابا ليلة العيد في انتظار الحبيب الذي يظهر أنه لن يأتي… . مع خلفية موسيقية لأغنية سكن الليل والأماني عِذابٌ وحنيني الى الحبيب عذاب للشاعر ابن عبود .. والأضواء والألعاب النارية تنطلق من كل اتجاه لكنها لدى الشاعر لم تكن سوى ضجيج مزعج ذلك أن عيده ( إياها) لم يكن حاضرا من كانت تجعل للعيد بهجته الحقيقية فالحبيبة لديه هي الحقيقة ومادونها هباء اذ تبدو انوار العيد في عينيه ضبابية هلامية مزعجه ..

ألّوك أشجاني العظمى بلوعةمن
يسابق الرعدَ في أعماقه الرعدُ

صورة قوية حادة .. هل رأيتم أحدا يلوك الشوك وماهي نتائج أن يلوك أحد شوكاً ؟ إنها الدماء التي سينزفها لائكها ..لكن هذه الأشواك هي أشجانه وحنينه لنبض محبوبه بل أضاف لهذه الحالة التي نحن بصددها موسيقى تصويرية ليطلع القارئ على مدى الحزن والشجن واللوعة التي تطحن أعماقه ولها صوت كالرعد وان كان هذا فقط لما يتعالجه الشاعر من اللوعة والوجد المبرح وهي صورة خيالية مبهرة ترسم على وجوهنا حالة من التأثر والتضامن الخفي مع بطل الحوار الذي جعلنا نؤمن بحبه إذ أنه جندنا للفكرة من خلال السرد السلس والانسياب والتسلسل المنطقي في ما لو صح أن نطلق عليه سيناريو القصيدة ..
إن المكتبة العربية الأدبية تعج بقصائد الغزل فهل حفظها الناس ودامت على ألسنتهم كما دامت اشعار عنترة وعبلة وقيس وليلى وكثير عزة وذلك لأنها كانت صادقة وصافية وحرارتها متأججة لذلك كتب لها الخلود ..
وبالعود الى القصيدة فإن خيالات الشاعر جعلته يراها يقظة لامناما وهو ضرب من ضروب هيام المحبين الذين تخدعهم حواسهم لترضيهم بتخيل صور المحبوبة ماثلة أمامهم ألم يقل عنترة : ولقد ذكرتك والسيوف نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم

إني اراك
ولا ألقاك فاتنتي
متى على ملتقى أمالنا تغدو

ثم يعود شاعرنا ليزري بالعيد وأنه لاحاجة به له لأنها عيده في موقف بائس يبعث على الشعور بالشفقة تجاه حبيبين فرقتهما الظروف ..
مالي وللعيد
أنت العيد سيدتي
في غفلة الصمت كم أودى بنا البعدُ

لا وردة في
يدي حمراء منك أتت
ولا ابتسامةُ حبٍ منك قد تبدو

في هذه البيت وجدت غرابة في أنها كانت تهديه هي الوردة الحمراء ووجه الغرابة أن الفتاة هي من تهدي الرجل الورد الأحمر الذي هو قرين العشق والشغف بعكس الأعراف الاجتماعية الشرقية في أن الرجل هو من يهدي المرأة الورد لا العكس !!
إلا إذا كانت هذه الوردة التي في يده بغرض إهدائها للمحبوبة وهو أمر طبيعي ومقبول بل رومانسي الوجهة ..

ثم يختتم بطل القصيدة الرواية إن جاز التعبير بأنه حتى الشوق لم يعد يشجيه ذكراها وهذا لعمري خطأ في التركيب إذ ان لفظة : لاشوق عندي .. قد أنكرت كل ماذكر سابقا فلو قال لاسعد عندي ليكسب بها جناسا ولأتمت المعنى المراد…
لا شوقُ حتى ولا هزت دمي قُبَلٌ
فكيف يأتي الى أيامي السعدُ ؟

إننا أمام شاعر يفتح نوافذ الحرف ليعرج نحو الاعالي سيكون له يوما ما صولة وجولة في مضمار الشعر لايشق له غبار . لست بضارب ودعٍ هنا ولكني اتكهن بذلك من خلال متابعاتي لكتاباته المزهرة ..
محبتي وتقديري وتمنياتي له باللقاء الأسطوري المنشود ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى