النكسة والكلامولوجيا العربية !

مصطفى سليمان | سوريا

العرب في عهدم القديم (عبدوا) الكلمة ، بمفهوم العبادة الفنية لا الدينية . قيل إنهم علّقوا نفائس شعرهم على جدران الكعبة مكتوبة بماء الذهب ( ومن أسمائها المُذَهَّبات) . وبهذا صار لهم كعبتان : كعبة من حجر وكعبة من شعر.

مستشرق فرنسي قال إن اللغة العربية لغة شعر وإرهاب . وطبعًا الرد على هذا الافتراء يدحضه التراث العلمي العربي ، ترجمةً وتأليفاً . حتى إن المثقفين والعلماء من غير العرب ، وبخاصة الفرس ، لم يكتبوا تآليفهم إلا بالعربية . والسوريون القدماء ترجموا كثيراً من تراث الإغريق إلى السريانية أولاً ثم إلى العربية، أو إلى العربية مباشرة ، لأنها كانت لغة العصر، لغة الأقوى .

وللكلمة سحرها عند العربي ( إن من البيان لسحراً ) وقد ينقلب السحر على الساحر .

وفي السياسة العربية ابتدع الزعماء– وهم في الحقيقة منظِّرون استراتيجيون – كلماتٍ تحمل في مدلولاتها العجز النفسي ، والحضاري .

فهناك (النكبة ): نكبة الأندلس . نكبة بغداد ( الأولى والثانية ) . نكبة فلسطين وهي النكبة المستمرة . ونحن اليوم في ذكرى ( النكسة ) 5/ حزيران- يونيو 1967 و مانزال منكوسين، ومنكوبين، ومُنَكِّسين ، ومُنَكَّسين … إلى آخر الاشتقاقات المنكوسة ، والمنكوبة، والمنحوسة !

كلمة ( هزيمة ) ليست في قاموسنا!! . ونعوِّض عن نقص إرادة الفعل بالصياح اللغوي : خطاباتٍ ، وأشعاراً ، وتنظيراتٍ ، وتفلسفات ، من خلال صحافيين عاديّين يطلّون علينا باسم محلِّل سياسي، أو خبير استراتيجي …

( هاملت ) الشكسبيري كانت عقدته التردّد ( وهو شاعر حالم ) و( هاملت العربي ) عقدته التردُّد والصياح اللغوي البليغ ؛ الكلامولوجيا !

نتفق مع( دون كيشوت ) الإسباني في عقدته : وهي وهْمُ الفروسية الخيالية في عصر انقرضت فيه ، ووهْم التاريخ الأسطوري في عصر الواقع . فنحن ودون كيشوت ( بدل مطابِق ) بلغة النحويين !

( الاستراتيجية وتاريخها في العالم ) من الكتب الذائعة الصيت للبريطاني ( ليدل هارت ) وقد ترجمه إلى العربية المقدم أكرم ديري. وعقب انتصار إسرائيل و(نكسة) العرب في ( هزيمة ) 1967 أرسل موشي دايان ، وكان وقتها وزير( الدفاع ) الإسرائيلي ، برقية شكر لـ هارتْ . وقال فيها إننا درسنا كتابك بعناية ، وطبّقنا كثيراً من نظرياته ، نحن نعرف أن العرب ترجموه ، وأنهم لن يفهوه ، وإذا فهموه فلن يطبّقوه ، وإذا طبّقوه… فلن ينجحوا في تطبيقه !

وأذكر من قراءتي الكتابَ أنه تحدّث عن نظرية عسكرية مفادها : أنْ تواجِهَ خطر الطبيعة أفضل من أن تواجه خطر العدو . وهذا ما طبّقته إسرائيل في سيناء ، حيث واجهت خطر بحيرات من الرمال المتحركة لتطويق بعض القوات المدرعة المصرية التي تركت خلف ظهرها تلك الرمال ظنّاً منها أن العدو لا يجرؤ على اقتحام ذلك الفخ الطبيعي الخطير . لكن العدو طبّق نظرية هارتْ ودمّر المدرّعات المصرية .

وترنُّ في مسمعي الآن الأغنيات الحماسية في بعض إذاعات الدول العربية التي دخلت الحرب قبل وخلال حرب النكسة ، وكيف كنت أشعر بالزهو، أكاد أناطح السحاب فخراً وجبروتاً ، وقاب قوسين أو أدنى من الانفجار ، من شدة انتفاخ الكبرياء : ( ميراجْ طيارِكْ هربْ / والميغْ تتحدى القدرْ) ! ( بفييتنام راحت نص أمريكا. ونحنا رح نكفّي على الباقي)!!!

وتتوالى أمام ناظريّ الآن أيضاً رسوم الكاريكاتير التي كانت تجسّد الجندي العربي بشكل جزمة عسكرية عملاقة تُلقي بالجندي الإسرائيلي القزم في البحر، وخطاب زعيم سياسي كبير يهدّد : سنجعل من الأسطول الأمريكي السادس طُعماً لسمك البحر الأبيض المتوسط !

علينا النظر إلى الوراء بغضب ، وأخذ العبرة ، حتى لا نبقى منكوبين ، ومنكوسين ، و…مهزومين !

ولا أدري اليوم كيف يفكر المستشارون السياسيون والعسكريون والإعلاميون والمنظّرون الاستراتيجيون ، والصحفيون المحلّلون الاستراتيجيون ، لابتداع مصطلح جديد يُشخِّص ما نحن فيه اليوم من نكبات ونكسات …. مستلهمين سحر الكلامولوجيا العربية !!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى