تربية أبنائنا بين الاعتدالية والتطرف

أ.د. / رأفت عبد الباسط محمد قابيل أستاذ علم النفس الإكلينيكي بكلية الآداب بجامعة سوهاج – مصر

   إن أبنائنا هم قرة أعيننا، هم زينة الحياة الدنيا، ولهذا فإن رعايتهم مسؤولية وواجب ديني واجتماعي سوف يحاسبنا الله على أدائه .. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ، “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.” 

   يعتمد الإنسان في طفولته لفترة طويلة من حياته على أخر لإشباع احتياجاته نتيجة لعجزه عن إشباعها، ومن هنا يتمثل التحدي الأكبر للأم والأب في نجاحهما في تحويل هذا الطفل من مجرد كائن بيولوجي غير ناضج، أناني لا يرى إلا نفسه في هذا الوجود، ويعتمد على أخر في إشباع حاجاته إلى كائن اجتماعي ناضج يعتمد على نفسه، ويعي أن هناك أخر يجب أن يقيم معه علاقة اجتماعية تبادلية، ويعي أنه مسؤول، ويجب أن يكون له رسالة وأهداف في الحياة يسعى لتحقيقها.

   وجدير بالذكر بأنه توجد مهام ثلاثة رئيسة تقع في دائرة مسؤوليات الأباء والأمهات وهم بصدد تربية أبنائهم، وهي:

  • تلبية احتياجات الأبناء وإشباعها. 
  • حمايتهم من أي خطر أو تهديد قد يتعرضون له.
  • تعريفهم، وتوجيههم بما يجب أن يفعلوه، وما يجب أن يتجنبوه (أفعل ولا تفعل).

    إن ضمان فاعلية أداء هذه المهام الثلاثة مشروط، ومرهون باعتدالية ووسطية أداء هذه المهام من قبل الأباء والأمهات، بالإضافة إلى التعامل مع الأبناء بوصفهم أنداد وليسوا مجرد أدوات أو قطع شطرنج نتحكم في حركتهم كيفما نشاء، أو بوصفهم كائنات قليلي الخبرة والمعرفة حتى ولو كبروا في السن، وأصبحوا بالغين اعتقادا بأنهم مازالوا صغار لا يمكن الاعتماد عليهم، ويحتاجون لرعاية وحماية.

   لا شك أن المبالغة والتطرف في أداء وظيفتنا كأباء أو أمهات، والتعامل مع الأبناء مهما كبروا في السن وكأنهم صغار- لا يمكن الوثوق فيهم- يسبب في اعوجاج وتشوية ما نقوم به كأباء وأمهات من مهام تجاه أبنائنا مما يجعل محاولات إشباع احتياجاتهم مجرد تدليع للأبناء وتدليل وميوعة، وتصبح حمايتهم من أي خطر خوفاً مبالغ فيه يعوق حركتهم في الحياة، وبالتالي يعوق استكشافهم لعالمهم، وخوض التجارب بأنفسهم، ويصبح اخبارهم وتوعيتهم بما يجب أن يفعلوه، وما يجب أن يمتنعوا عن فعله هيمنه، وسيطرة، وتسلط من قبل الأباء والأمهات تجاه أولادهم.

   فعلى الأباء والامهات أن يتخلوا عن انانيتهم، وعن حاجاتهم إلى حاجة أبنائهم لهم، التي قد تستمر معهم حتى ولو أصبح الأبناء في سن الأربعين من العمر بحجة أننا كأباء وأمهات أكثر وأفضل خبرة ومعرفة، أنها رغبة كامنة في فرض سيطرتهم وسطوتهم وتحكمهم في أبنائهم، وجعلهم كائنات لا رأي لهم، كائنات تعيش في جلاليبهم يحققون طموحاتهم، وأهدافهم، وما فشل الأباء أو الأمهات في تحقيقه، ولسان حالهم يقول ” أريدك أن تحقق ما لم أستطع تحقيقه، أريدك ألا تخيب أملي فيك، لقد ضحيت كثيرا من أجلك، وسأظل أضحي، وأحبك ما دمت تسمع كلامي، وتحقق رغباتي”.

   إنها تضحية وحب مشروط بتحقيق رغبات الأب أو الأم، أنه حب يُشَبع، ويلبي طلبات أحد طرفي العلاقة، ومع استمرارية تلك العلاقة المشروطة يختل ميزان التوازن، فتختل بالتالي العلاقة، وتصبح المكاسب لصالح طرف دون الأخر، وهي هنا بالطبع لصالح الأباء او الأمهات على حساب سعادة الأبناء واستقلالهم، وبالتالي نكون بصدد علاقات غير ناضجة، وغير متكافئة. 

   وما سبق ليس بمثابة دعوة لتخلي الأباء أوالأمهات عن دورهم في تقديم العون والمساعدة أو الإرشاد والتوجيه أو الحماية لأبنائهم بقدر ما هو دعوة إلى منحهم مساحة أكبر، وكافية يتحركون فيها بحرية محققين أهدافهم وآمالهم، مساحة تسمح لتحقيق ذواتهم بأنفسهم.

   لا ننكر أبداً أن الأباء أو الأمهات يمثلون الأخر الذي جاء الأبناء من خلاله إلى العالم إلا أن هذا لا يعني أن هؤلاء الأبناء ملكاً للأباء أو الأمهات، يتحكمون فيهم، ويقررون لهم ما يشاءون، ويحددون لهم مصائرهم ومستقبلهم، بحكم أنهم الأكثر والأفضل خبرة ومعرفة وتجربة، قد يعد هذا الافتراض صحيحاً ومقبولاً في طفولة هؤلاء الأبناء بحكم كونهم مازالوا صغار السن، وأقل خبرة ومعرفة، ولكن كلما كبر هؤلاء الأبناء وأصبحوا بالغين، وأصبح لهم تجاربهم وخبراتهم وعالمهم الخاص، لاشك أن هذا الافتراض تقل صحته، ويعد غير مقبولاً، أو صالحاً او نافعاً، مما يجعلنا ننصح الأباء والامهات ” بأن لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم ” ومن ثم يجب على الأباء والأمهات أن يغيروا أسلوب تعاملاتهم، ونظرتهم لأبنائهم، وأن يتخلوا عن أنانيتهم بأن يتعاملوا مع أبنائهم عندما يصبحون كباراً بندية ومساواة، وبوصفهم كينونات مستقلة عنهم، ولهم حرية الاختيار. 

   إن التعامل مع الأبناء بوصفهم امتداد لنا، وجزء لا يتجزأ منا، وأنهم ملكاً لنا، وليس بوصفهم كينونات مستقلة من شأنه أن يخلق لنا شخصيات ضعيفة، اعتمادية، هشة، غير قادرة على أن تستقل بنفسها، وتتخذ قراراتها، غير واثقة من نفسها، مترددة، شخصية جبانة يملأ الخوف كل كيانها، تتجنب المشكلات، غير قادرة على مواجهاتها، وغير قادرة على تحمل المسؤولية، شخصية عاجزة ليس لها أهداف تسعى لتحقيقها، تصبح مجرد مفعول بها فهي تكتفي فقط بالاستجابة أو رد الفعل، ليست صاحبة مبادرات أو إبداعات، هي تابعه، معتمدة على أن هناك أخر ينوب عنها، ويقوم بدورها غالباً يكون هذا الأخر إما الأب أو الأم أو من يحل محلهما.  

   وأخيراً وليس بأخر احرصي أيتها الأم، وأيها الأب ألا تكون سببا في خلق شعوراً بالامتعاض والألم بداخل نفوس أبنائكم يزداد كتلته، وحجمه مع العمر، ويجعل لسان حالهم يردد ” لماذا لا تحسنوا تربيتنا…..! “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى