” مىّ زيادة”.. وذكرى لا تموت

صبرى الموجى

سئلت يوما عما أثّر في مجرى حياتها ككاتبة، فأجابت : القرآن الكريم، وجمال الطبيعة، والأحداث الوطنية ..إنها أديبة الشرق ماري إلياس زيادة، التي ماتت أكتوبر 1941 م.

هي فلسطينيةُ المولد، لبنانية الجنس، قاهرية المقام والوفاة ..ولدت 1896م بمدينة الناصرة بفلسطين، موطنِ بشارةِ مريم العذراء بالسيد المسيح.. خرج أبوها إلياس زيادة لبنانيُ الأصل من كسروان بلبنان إلى الناصرة بفلسطين، وهناك تعرف على سيدة مُتعلمة وتزوجها، فأنجبت له ” مريم”، أو ماري التي عرفت بـ”مى”، وابنا آخر تُوفى صغيرا.

انتقلت ” مي” إلى “عينطورة” بجبل لبنان، لتتلقى دروسها الأولى، فراعها جمال لبنان الخلاب حيث تقول : (في مشاهد لبنان الجميلة.. جنان مزدانة بمشاهد الطبيعة الضاحكة، جبال مشرقة بجلالها على البحر المنبسط، عند قدم هاتيك الآكام الوادعة، كنت أُسرحُ الطرف بين عشية وضحاها، وأنا طفلة صغيرة، فكانت توحى إلى نفسى معانى الجمال، فتفيضُ بها شعرا أُسطره في أوقات الفراغ، وأثناء الدروس التي كنت أشغل عنها بنظم الشعر وتدوينه، حتى اجتمع لي منه مجموعةٌ باللغة الفرنسية، سميتها “أزهار الحلم” ونشرتها في مصر بعد أن نزلتُ إليها مع والدى بإمضاء ” إيزيس كوبيا”.

بحثٌ لا يعرفُ الكَلل

في حضن مصر الدافئ أتقنت أديبة الشرق أكثر من لغة، كان أعمقها الفرنسية، التي ما انفكت تكتب بها، فنصحها المحيطون بدراسة العربية الفصحى، فأخذت تقرأ بعناية ما يكتبه كبار الكتاب في جريدة “المحروسة” التي أصدرها والدها آنذاك، ومن معين هؤلاء الكتاب الثرى، عبّت كاتبتنا حتى الثُمالة فتكونت لديها ملكةٌ لغوية شجعتها على ترجمة رواية فرنسية تسمى” رجوع الموجة” التي تُعد أول كتاب نشرته بالعربية.

أسهمت اللغات العديدة التي أتقنتها أديبة الشرق في تشكيل مخزونها الثقافي والفكري، الذى استقته من أعلام هذه البلاد، والذى تجلى في مقالاتها الأدبية والنقدية والاجتماعية التي نُشرت بكبريات الصحف آنذاك فاندهش لها المثقفون؛ لما تميزت به من أسلوب مشرق، ومعان شاعرية جميلة، وأفكار منطقية رصينة، اكتسبتها من قراءة القرآن والذى أوصاها لطفى السيد بتلاوته كي تكتسب من فصاحة أسلوبه وبلاغة لفظه.

كان لـ” مي” صالون أدبى ينعقد كل ثلاثاء برئاسة إسماعيل صبري باشا، ساهم بدوره في إثرائها اللغوي والفكري بما كان يُثار فيه من قضايا، يطرحها الأدباء والمفكرون الذين يؤمّونه أمثال ( شوقي ، وحافظ، والعقاد، وطه حسين، وانطوان الجميل، وأمير البيان العربي مصطفى صادق الرافعي، وغيرهم ).

لم يقف تعطش ” مي” للمعرفة عند هذا الحد، فكانت أشبه بأرض ظمأى، كلما سكبت فيها ماء، اشتاقت للمزيد، إذ سرعان ما التحقت بالجامعة المصرية أثناء الحرب العالمية الأولى، فدرست تاريخ الفلسفة، وعلم الأخلاق، وتاريخ آداب العرب، وتاريخ الدول الإسلامية، حتى انتهت الحرب، وقامت الحركة الوطنية المصرية، فاشتعلت يقظتُها الأدبية الصحيحة، وخُلقت خلقا أدبيا جديدا، تجلى واضحا في المقالات التي أبّنت فيها باحثة البادية ” ملك حفني ناصف” والتي جمعتها في كتاب سمّته” باحثة البادية”، وكان أول كتاب بالعربية كتبته عربية عن كاتبة عربية.

“مي” والحب

كانت “مي” أشبه بفراشة طليقة أو زهرة متفتحة تفوح عطرا وأريجا على رواد مجلسها الذى حرص عليه الأدباء، وكان لعذوبة منطقها، ورضاب حديثها، أكبرُ الأثر في تعلُق القلوب بها، فأحبها الجميع، ومن أخفى، فضحته رسائله، في خزانة الأدب، وحرصه على ارتياد مجالسها، وتبادل أطراف الحديث معها.. فالكل أحب ” مي” ولكنها أحبت من؟

لم يتعلق قلبها بأحد مثلما تعلق بجبران خليل جبران، الذى أحبته حُبا زلزل كيانها، رغم أنها لم تلتقيه ولو لمرة واحدة، بل امتد حبلُ الود بينهما عبر مُراسلات دامت أكثر من 20 سنة، وحملت طابع الغرام العفيف، الذى ارتفع عن لذة الجسد، إلى تلاقح الأرواح ، فكان غراما روحيا خالصا، حيث لم تسمح لنفسها أن تغازل أديبا، أو شابا غزلا صريحا يُروى عنها، فكانت فتاة محافظة تنأى الخروج عن العادات والتقاليد المعروفة فى زمانها، وتأبى أن تجهر بحبها.

“مي”.. وأحزانٌ لا تنتهى

يبدو من كتاباتها الأدبية، نقلا عن ” دمعة على المغرد الصامت، و” ابتسامات ودموع” أن ظروف حياتها التي بدأتها وحيدة، كانت السبب الرئيسي في حالة الحزن التي خيمت عليها ولازمتها حتى فارقت دنيانا، فلم تهنأ “مي” بإخوة أو أخوات يؤنسون وحدتها، إلا أخا وحيدا لم يُمهله الدهر إلا قليلا، ثم صمت بالموت، فصمت بموته طائرها المغرد، إلا من نغم الشجن والأحزان، التي زادت بفقد أبيها ثم أمها، وبقت وحيدة بلا أنيس ولا جليس يسليها صباح مساء.

وانطفأت “مي”

كان لصقيع الوَحدة وبرودة الفراغ أكبرُ الأثر في حالة الحزن التي لازمت ” مي”، فحاولت أن تتغلب عليها، بأن تصب لواعج النفس وكلم الفؤاد على الورق، ولكن هيهات هيهات أن يزول الحزن، الذى ازداد، فقد كانت كتاباتها عن الدموع والابتسامات محركا للنار تحت الرماد، فساء مزاجها، واختفت عن صالونها، بعدما تدهورت أعصابها، فشدّت رحالها إلى أهلها بلبنان فاساءوا وفادتها، وأودعوها مستشفى نفسيا تضاعفت فيه علتها، فنقلوها إلى مصحة خاصة بعد أن هاجمتهم الصحف، ظلت بها 9 أشهر، ثم عادت إلى مصر، ومنها إلى إنجلترا، التي رحلت إليها أملا فى الاستشفاء، لكن نار الجوي كادت تحرقها فزادت علتها، فنكصت راجعة إلى مصر، ثم سافرت إلى إيطاليا، وانشغلت بدراسة آثار اللغة الإيطالية، عساها تنسى علتها وسوء مزاجها، ولكن أنّى للعليل أن ينسى داء لازمه؟ فزاد مزاجها تعكُرا، فرجعت آيبة إلى مصر، ومنها إلى روما، ثم إلى مصر، حتى استسلمت لأحزانها ومرضها العصبي الذى نقلت على أثره إلى مستشفى نفسى بالمعادي، أسلمت فيه نفسها إلى بارئها عن 55 عاما، وسكن طائرها عن الصدح، ورغم أنها سطرت أدبا ملأ الدنيا وشغل الناس إلا أن “أديبة الشرق” خرجت وحيدة ولم يتبع جنازتها من أصحابها سوى : لطفى السيد ، ومطران ، وأنطوان الجميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى