قصة قصيرة: الرقص بساق واحدة!

د. موسى رحوم عبَّاس | الرياض

         هو عاصفةٌ من الاحتجاج والغضب، بل إعصار أحيانا! هذا كان قبل هذه اللحظة، يتكوَّر على نفسه بين يديها، كطفل باغته أهله يسرق، يرفع بيد حانية وجهها المرسوم بدقَّة بملامحه الارستقراطية، أراد أن يخبرها بأن شعرها قد جدلته الشَّمس، وعيونها غَرَفَتْ ماء بحرٍ بعيد، استمرت في حديثها عن الأشياء التي تحبُّها، فرسها، كتبها، شقاوتها، صاحباتها، تلك المدن البعيدة التي تحبُّ، كان يريد مقاطعتها، اللغة تهرب من معاجمها، لم يعد عدد الحروف ثمانية وعشرين! هي تستمر في الحديث، تتداخل الأصوات والألوان، يريد إخبارها عن القارب في بحر مرمرة، عن الطفل الذي مات في الغابة الفاصلة بين الحدود التُّركية واليونانية، عن زميلته في الجامعة التي اختفت فجأة، عن الأعراس في قريته،  لم يعد يسمع شيئا، أراد أن يقول:

هذا ما حصل، والآن لم يعد يريد شيئا، لقد أخبرها بكل شيء، بكل ذلك الصَّمت المسكون بالضَّجيج الصَّاخب.

    وأنتَ تتعلم لغةً جديدةً، تنتقل إليك مشاعر جديدة، في (استوكهولم) غيَّر ملابسه، وتسريحة شعره، ألقى بحقيبة السفر في سلة إعادة التَّدوير للقمامة، صار يغنِّي بصوت مرتفع، يسبُّ الحكوماتِ ورجالَ الدين والسَّياسة.

 يفكِّرُ! ربما عاد وحذف بعضا مما ذكره آنفا، مُؤثرا السَّلامة وهي عادة قديمة، تعلم مِشْيةً جديدةً برأسٍ مرفوعٍ، لكنَّه نسي أن قدمه المبتورة لايمكنها ذلك، ضحك من زميله الطَّبيب الذي نشرها بكل هدوء في المستشفى الميداني في الضَّاحية، وقال له: ازرعها في كرم الزيتون، لعلَّ زيتَها يضيء، وأخبر إخوتي أن حصتي من ميراث والدي ، هي الأرض التي تنبت فيها قدمي ، وكان كلما حاول الرقص مع صديقته، ينكسر الإيقاع، يفارق اللحن،  ينسى أنَّه سيبقى بمشيته العرجاء هذه للأبد!

 

 يقول لأصحابه: عندما تفقد جزءا من جسدك، تبقى لفترات قد تطول تشعر به، تتألم أحيانا، لا تعرف مصدر الألم، لكنك تشعر به، تتواصل مع جزئك المفقود، وكأنه مازال موجودا!

أحيانا يتحدث إلى ساقه المنزرعة في تلك التربة الحمراء في مزرعة الزيتون التي ورثها مع إخوته على أرض أجداده، يضغط عليها؛ لتنغرس أكثر في مكانها، يضحك كثيرا، وربما سالت دموعه، فكيف لساقه أن تعصي له أمرا، يتحول الحلم إلى كابوس، يرقص كما كان يفعل في الأعراس، يطلق رشقة من مسدسه الذي أهدي إليه من قيادة الجيش في تكريمه ” بطل الجمهورية” في الحرب مع العدو الصَّهيوني، يضحك أكثر، بطل، بطططططل !

        قد تتعلم كيف تمشي على الرَّصيف، وتنزل من الحافلة، وتخرج من المصعد دون أن تتزحلق، قد تتعلم الكثير، إلا أنك لن تتعلم الرقص بساق واحدة إلى الأبد!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى