عالم الثقافة تحاور الشاعرة العمانية هاشمية الموسوي
حاورها : ناصر أبو عون
- أحس بالمخاض وما يرافقه من ألم إذا توقف القلم منتظرا اكتمال الفكرة
- ليس بشاعر من يرغم نفسه على الكتابة ليصبح رصيده عددًا من القصائد
- لا تفرق معي الشعري أو النثري فكلاهما يسبحان في اليم نفسه
- التمييزات الصوتية يمكن أن تصير أساس الإيقاع والوزن في قصيدة النثر
- مازلت أبحث عن وجودي وذاتي بين ركام الأمنيات وسط ضجيج الحياة المتلاشية
- ما أحوجنا إلى تحول مداري يقلب قوانين هذا الكون ويطير بنا إلى السحاب
صدر عنها كتاب بعنوان: (عمان وقضايا الإنسان في شعر هاشمية الموسوي) للباحث ناصر أبو عون.. عن دار (الآن ناشرون وموزعون الأردنية).. هاشمية بنت جعفر بن علي بن علوي الموسوي؛ باحثة تربوية بوزارة التربية والتعليم، تخرجت في جامعة السلطان قابوس ونالت درجة البكالريوس في اللغة العربية، لتواصل تعميق التخصص في المراحل التالية بحصولها على درجة الدبلوم العالي في الإدارة المدرسية من الجامعة نفسها، وفي سبيل تجذير الخبرة والارتقاء المهني تقدمت لنيل درجة الماجستير في الإدارة التربوية من جامعة “صحار” بسلطنة عمان، وتواصل مسيرة العلم والعمل فتلتحق بمقاعد الدراسات العليا لنيل الدكتوراه من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في العاصمة البريطانية لندن في بحث أكاديمي متخصص تحت عنوان: (التربية الاجتماعية في ضوء القرآن الكريم). صدر لهاشمية الموسويّ أربع مجموعات شعريّة هي (إليكَ أنتَ 1993م)، و(للروحِ هُوِيَّة 2000م)، و(ثورة الزُّمرد 2004م)، و(أوراق منهزمة 2009م). وكانت مؤخرًا من بين 40 أديبا حصلوا على (المَكرُمة السامية) في “العيد الوطني الأربعين المجيد” للسلطنة وهي (أول امرأة عُمانية) تنالُ (جائزة راشد بن حميد للثقافة والعلوم) على مستوى الوطن العربيّ عام1987م. وتوشحت بوشاح جائزة الإبداع النسائي بالشارقة 2007م، فضلا عن المشاركات الخارجية الفاعلة في المشهد الإبداعي العربي بدأت بالملتقى الشعري الخامس بابوظبي 2000م، ثم مؤتمر الثقافة والفكر بالمغرب 20004م، ومهرجان خريف صلالة 2005 م وحلّت ضيفة على الأسبوع الثقافي الأهلي بالبحرين 2009م ودعيت للمشاركة في مؤتمر التراث والثقافة بدولة الكويت 2010م، ونالت مقعدا بمهرجان المربد في العراق 2011م. وعلى صعيد التفاعل الداخلي مع المشهد الشعري العماني كانت إحدى المشاركات النشطات بندوة الأدب العماني الأولى بجامعة السلطان قابوس.
** يشكل الشعر النسائي ظاهرة اقتحامية ورافداً من روافد الشعر العماني المعاصر فنراه في وثبته التحررية، سواء مندفعاً في نظرية المساواة، أو حاملاً لون البيئة والعصر، يعي طبيعته الأنثوية، ممداً للفكر المعرفي، توازناً يفتقده الأدب في العالم .. وفي عُمان نجحت شاعرات بنفح الأدب الشعر النسويّ بسوريالية مدجَّنة ورؤيا شجاعة مميزة وحديثة،،، ما هي الخطوط المميزة لهذا التوجه في إصدارات هاشمية الموسوي ؟
** أبدا بهذه الأبيات للشاعرة الخنساء:َ
طرقتُ يا خنساءُ بابكِ مرةً أخرى وألقيت السلام , ردّي عليّ تحيتي !قولي / فإنّي لم أعد أقوى على نارِ الكلامْ ! فـلقدْ بكيتِ خُناس صخراً واحداً , و الآن : أبكي ألفَ صخرٍ كلّ عام
الكلاسيكية المتوغلة بين طيات الحروف الجامحة في شريان القصيدة في أغلب نصوص هذه الإصدارات ,الفكر المعرفي المتشرب بلواعج الحياة وآلامها ,سكونها وهدوئها وعواصفها النازحة بين فترة وأخرى من عذابات السنين وأحلام الطفولة المعذبة والمتناثرة بين جوانحنا ,الحروف الدامية والجامحة نحو البحث عن الذات في زمن ضاع فيه كل ما يسكننا ,في زمن اختربت فيه أواصر الحب وفقدنا على ضوءه الاحترام ممن يرون ذواتهم فوق الناس وقد علاها غبار الغرور , إننا نقترب من عواصف الفناء شيئا فشيئا ,ندثر أيامنا الكئيبة والمقلقة إن صح قولي بين ثنايا الأمواج المتلاطمة قرب ألوية البقاء ,وقد لاحت في الأفق رايات النصر والبقاء للأفضل ,نخوض في عوالمنا المنفصلة وإن جمعتها رياح الرغبة في سديم الليل المنبطح على أقدامنا ,والقادم من شتاء قارس وصيف حارق ننتمي إليه , فيظهر ذلك في حروفنا وكلماتنا المؤبجدة ,كل ومدى انتفاضته في هذا الكون العظيم ,نتهيأ للقادم من خلال هذه الكلمات المغيبة في عروقنا ,يا له من توجه يسابق أجنة الأرحام لعبور ذلك الطوفان القادم من أقصى الموت.
** لعل العلامة الأكثر بروزا في قصائد هاشمية الموسوي النثرية كانت نوعاً من الرمزية الجامحة والاستحضار اللازمني اللذين جعلا هذا الشعر صعب المنال بالنسبة إلى الجمهور الواسع، ومع مرور الوقت أصبح هذا الشعر أكثر صفاء واكتسب عمقاً وبساطة وتميزاً في المضمون وفي التعبير ،،، ما السرّ وراء هذا التحول في معمار إنتاجك الشعري ولا سيما النثري ؟
** ما أحوجنا إلى هذا التحول في زمان لعب بنا واجترأ على مشاعرنا ,ما أحوجنا إلى من يقف معنا في هذا النفق المظلم بكل كينوناته ,مظلم بحق وإن حفته أنوار السماء , من يخرجنا من عتمة ما نحن به غير نصوصنا وقصائدنا نتسلى بها وهي أيضا تتسلى بنا ,بحاجة إلى هذا التحول الجذري لعصر يرسمنا ويدفعنا بقوة المهاجم لنيل الفوز والنجاح ,حين تخاطبنا أصابعنا لا نملك إلا التوغل في محكمة الموت والضمير النازف والواقف على مئذنة الضياع الهارب من أشباه الرجال !ومع مرور الوقت يصبح كزرقة السماء في يوم تبددت فيه الغيوم وهربت من مكانها لتلتحف جدار الصمت المرسوم على جباهنا العالقة ببريد الصلاة,لا تفرق معي الشعري أو النثري فكلاهما يسبحان في نفس اليم ,كلاهما مخضبان بعشق الثورة الولائية ,كلاهما يضخان في روحي عبق الوجود ولكني مازلت أفتش عنه ,مازلت أبحث عن وجودي عن ذاتي عن نفسي بين ركام الأمنيات وسط ضجيج الحياة المتلاشية ,ننزف من الضياع الأبدي وننتظر سطور الأمل من يفجرها ؟ من سيبني سنينا للقادم من خلف صرير برزخ ينتظرنا وعالم آخر يرنو إلينا بشغف ونحن لا نملك غير حروفنا المنكسرة في دواخلنا ,ما أحوجنا إلى تحول مداري يقلب قوانين هذا الكون ويطير بنا إلى السحاب حيث عشقنا الروحي ينتظرنا ,الرمزية الجامحة جدار زجاجي نطل من خلاله على قلب الشاعر.
** الذي لم يتذوق فرح الشعر ولذة ولادة القصيدة، لا يكون قد تقابل مع الشعر.. ولا تنحصر مهمة إصدارات هاشمية الموسوي في كونها شهادة ناطقة باستباحة المرأة ساحة الشعر، ونجاحها في اقتحام دروب وأساليب حديثة كالرمز والأسطورة والنثر الشعري والأسلوب السوريالي،،، لكن لماذا نشاهد (إصرارًا) إن لم يكن (معاندة إبداعية)، ورغبة محمومة في تضفير قصائدك في جميع مستوياتها وطبقاتها الرسوبية برؤية دينية ، ونظرة فلسفية، ونفحات صوفية إنسانية؟
** هي رغبة محمومة أتفق معكم ,إصرار نعم ,معاندة إبداعية بالطبع ,ولكن هناك الدافعية المطلقة ,الدافعية اللإرادية والتي تنبثق من إيماني بوجوب الرؤية الدينية والنظرة الفلسفية والنفحات الصوفية الإنسانية هي جوانب فرضت وجودها ,لم أذهب إليها وإنما جاءت من خضم أزماتنا التي نعيشها تمليها على أكفي الوالهة والمتضرعة بالدعاء للرب الكريم والعظيم ,أعجبني مصطلح الطبقات الرسوبية وبالفعل كذلك هي ترسبت على مر السنين حتى تحللت في نصوص سريالية كما ذكرت .
الغربة التي نشعر بها في حياتنا غربة الذات الحقيقية للإنسان حتى وإن كنا نعيش مع أحبائنا وأهلنا ولكن هناك غربة تمكنت منا أيما تمكن وأنشبت أظفارها في دواخلنا ,موت بطئ يغرس مخالبه تحت جلودنا ,فنتوق إلى أرواحنا الضائعة تحت أدراج الرياح بين أوراق المنافي قرب أروقة المقابر ,نبحث عن الخلود الأبدي في عوالمنا النرجسية ,ولكن من أين لنا الخلود, وهناك لحد ينتظرنا ,حساب وعيد ,جنة ونار عوالم متعددة سنخوضها ,تنتظرنا فكيف لا تكون هناك طبقات رسوبية بتلك الرؤى التي ذكرتها ,كيف ننعم بعيش ويهدأ لنا بال ونعلم أن الفناء والعدم مصيرنا ,الوحشة والظلمة والغربة الحقيقية تزاحمنا وحين أجد نفسي لن أكتب صدقني. لازلت تائهة في هذا الكون الذي أقف على تخومه وأخشى الغرق .
** يعنّ للبعض التساؤل عن مصير العلاقة بين النص والمتلقي. وإذا تحرينا الركام الهائل من تاريخ الشعر العربي لا نكاد نقع إلا على القليل من الشعر. القليل القليل جداً وللأسف،،،هل توافقيني الرأي بأن الشعر الذي وصلنا وتعلمناه بالمحاكاة والتقليد ما هو إلا جزء من خطاب قبلي انحصر في قالب دعائي؟
** طبعا أخالفك الرأي فالشعر لم نتعلمه بالمحاكاة والتقليد وإلا أصبح ضعيفا الشعر حالة نفسية إنسانية تنبع من طوفان هائج في نفس غائبة عن الوجود وهنا أذكر قول أفلاطون في هذا الموضوع بأن الشاعر شأنه شأن المصور لا يصل إلا إلى ظواهر الأشياء دون النفوذ إلى طبيعتها أو إلى جوهرها الأصلي. و هكذا فالفن بأنواعه المختلفة ومنها الشعر عموما هو”محاكاة للمظهر” و المحاكاة- يقول أفلاطون- بعيدة عن الحقيقة، و يظهر أنها تتمكن من صنع جميع الأشياء لأنها تلمس جانبا صغيرا منها فقط، و ليس هذا الجانب إلا شبها منها: مثال ذلك أن المصور يرسم صانع الأحذية أو النجار أو أي صانع آخر، مع أنه لا يعرف شيئا عن صنعتهم. و لكنه إذا كان فنانا بارعا استطاع أن يرسم النجار و يعرضه من بعيد فيخدع الصبيان و البسطاء حتى ليخيل إليهم أنهم يرون نجارا حقيقيا .إن الفن لا يحاكي إذن سوى الظاهر، بخلاف الفيلسوف الذي يدرك الحقيقة و يتصل بها كما هي في عالم المثل. و من هنا فقد ذهب أفلاطون إلى أن إنتاج الشعراء يتسم بالضعف و الرداءة، فالمحاكاة لا تخلق بالنسبة إليه سوى ما هو وضيع، إنها لا تنفذ إلى أعماق الأشياء، فالشاعر يمتح من مرجعية لا تخرج عن إطار الصورة أو الظل أي عما هو ظاهري؛ فالعنصر الفاعل في التعامل مع هذه المرجعية يختزل على العموم في الأحاسيس و المشاعر الحيوانية أي المكون السيئ للروح. يقول أفلاطون: “إننا على حق في مهاجمته أي الشاعر و وضعه في المكانة ذاتها التي يوضع فيها الرسام، ذلك لأنه شبيهه في كونه ينجز أعمالا ذات ثمن بخس إذا ما قارناها بالحقيقة، و إنه ليشبهه أيضا، بينما لا تجمعه أية علاقة بالجانب الأفضل منها“.
** مخاض القصيدة لحظة انبعاث جديد للشاعرة ، انسلاخ من مشيمة عالمها والانفلات خارج دائرة القوالب الجاهزة خصوصاً أوقات العاطفة القوية،،، متى تدرك هاشمية الموسوي ذلك وتحاول كبح قوة الاندفاع الوجداني باتجاه الكتابة، وإيقاف جموح الرغبة في توصيل الفكرة ؟ وهل تتوقف وتتريّث، لتقرير الصورة التي ستكون عليها القصيدة أولاً، ثم تحديد الموضوع الذي ستتحدث عنه؟
** نعذب كثيرا عندما نمشي على صدر البوح والحرف, للتعبير عن وجع الروح والشعر وقد نتذوق العذابات حين لا تأتينا الفكرة بسرعة وإنما هي متفاوتة نلمحها من بعيد بعسر الزمن وعدم تحديد الوقت المناسب لانطلاقة الصرخة… فنتوجع قدما عندما لا تسعفنا الفكرة بنقش الكلمات في البياض لنكتب ما يريح هذه الصرخة ومخاضها مع أعمالنا اليومية وقهر الملامح ببوتقة لقمة العيش وما يصاحبها من وجع . فمخاض الشعر عسير عسير حين نشعر لحظتها أن الكون كان على صدرنا لحظتها، فلما يكتمل ينزاح عنا، ولكنني الآن أحس بالمخاض وما يرافقه من ألم إذا توقف القلم منتظرا اكتمال الفكرة أو خروجها بالصورة الأفضل نص صيغ بصورة أشبه بالفلسفية-وهناك من الشعراء من يرغم نفسه على الكتابة ليصبح رصيده عددًا من القصائد يتفاخر أنه قرضها والنتيجة : تخرج القصيدة كيفما اتفق، حتى لو تعرضت للتشويه، وخرجت للدنيا مولودًا خادجًا معرضًا للموت في أية لحظة ؛ فترحل كل قصائده عن فلك الشعر، من دون أي أثر يذكر. ما أروع أن تكون القصيدة نجمة تولد ويبقى وهجها يصل للأجيال عبر سنين ضوئية.
** تركز قصيدة النثر عند هاشمية الموسوي على تعطيل المعامل الأساسي في التعبير الشعري وهو الأوزان العروضية، دون أن تشل بقية إمكانات التعبير في أبنيتها التخييلية والرمزية، إلى أي حد نجحت هاشمية الموسوي في إحداث حالة توازن بين التعبير والتجريد كإستراتيجية لبناء معمار قصيدتها النثرية؟
** بالإضافة إلى عناصر التأثير المهمة على المتلقي في قصيدة النثر، بإمكاننا أن نضيف عنصرا تأثيريا آخر إليها، بحيث يجذب المتلقي أكثر فأكثر نحوها وهو أن تُكتب بنبرة صوتية إن النبرة الصوتية، بهذا المعنى، هي أساس التصور والإدراك، لأنها تتضمن المعنى وتحتويه. وهذا الأخير بطبيعته مختلف عما حدد معجميا. وبالنظر إلى الصفات والسمات المكونة للصوت فإنه يعتبر المادة الأساسية في علم الأوزان: “ومن ناحية أخرى نجد أن التمييزات المتعلقة بالصوت هي التي يمكن أن تصير أساس الإيقاع والوزن: فالحدة، المدة، الشدة، تعدد التكرار، كلها عناصر تسمح بتمييزات كمية.
** وأخيرا لمن تكتب هاشمية الموسوي شعرها؟
** أعزفُ عَلى أنسجةِ الروحِ لِمّا تبّقى من أصابعِ العمرِ ’’التي رحلتْ على ضجيجِ أصواتِ المعزيّــــــنْ ’والحاملينَ نعوشَ الأصدقاءِ ’’الذين رحلوا ..وخلفُّونا شموعاً تذوبُ وتحترقُ فوقَ أجنَّةَ المساءِ الهابطِ علينا من أوراقِ التعازي حينَ حَمَلَها الرائِعوُن ْ