قراءة في رواية (دروب الفقدان) للكاتب والروائي عبد اللّه صخي

عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة أورك العراقية

سلطة الفقدان والغياب
(إنَّ الحياة لا تنتهي بطلاق أحدٍ،الحياة مستمرةٌ وهي مليئةٌ بالفرص والمصادفات)= (علي سلمان) بطل الرواية.
من الإطلالة الأولى على عنوان روايته الفذة (دروب الفقدان) يحيلنا الروائي والكاتب المبدع عبد الله صخي الى تداعيات هذا العنوان،ودلالاته فنشعر بالفقد، والغياب، والضياع.


يتابع صخي بمهارةٍ مابدأه في روايته الأولى  الموسومة بـ(خلف السدة) التي صدرت عن دار المدى ببغداد سنة2008‪ م ليواصل في روايته الثانية روي مصائر، ومعاناة البائسين المسحوقين الذين صار الشقاء عنواناً لهم، وسمةً لا تنفك عنهم.
يشد الكاتب القارئ في أول روايته (دروب الفقدان) الصادرة عن دار المدى ببغداد سنة 2013 م بنحو (286) صفحة من القطع المتوسط بمشهد إعدام أحد شقاوات مدينة الثورة شرقي بغداد، الا وهو الخوشي أو الشقي  (نايف الساعدي) الذي يجمع بين الشقاوة، والشهامة فيأبى أن تعتقل سلطات البعث ناشطةً شيوعيةً تُدعى (كاظمية محمد)، فيأخذ سلاحاً من أحد رجال الأمن ويردي خمسة عناصر من القوة المهاجمة قتلى، والمفاجأة أنَّه يعود الى بيته من دون خوفٍ، بينما تفر كاظمية محمد وتنجو، فلماذا استسلم نايف الساعدي لمصيره وهو يعرف قسوة الجلادين؟


سؤال لا نملك الإجابة عليه ولكن السلطة البعثية استغلت الحادث لتظهر سطوتها، وارهابها الذي شهد العراقيون بعضه في أحداث 8/شباط 1963م وما بعدها من قتلٍ عشوائيّّ، واعتقالات بالجملة، والعنف المبرمج، وهو ما يفسر كل ما حصل من كوارث، وحروبٍ، وحرمانٍ وانتهاكاتٍ جرت في العقود اللاحقة.
وباعدام نايف الساعدي في ساحة كرة القدم في قطاع (55) في مدينة الثورة شرقي بغداد يرسم الروائي بالدم بوصلة الحياة المستقبلية لشريحةٍ واسعةٍ من المعذبين مستعرضاً مصائر عددٍ من الشخصيات ومنهم: (سوادي حميد) أسمر البشرة الذي يعشق (نرجس) البيضاء فيمتنع أهلها عن تزويجها له، فيضطر الى الهرب بها، ويتزوجها لكنَّ أخوتها يستدلون عليهما في احدى صرائف منطقة خلف السدة، فينهالون عليه طعناً بالسكاكين، وقد ظنوا أنَّه مات، ويأخذون أختهم الى الكويت لتنجب ولداً يدعى (بحر) يزوره حين يكبر ليخبره أنَّ أمه مازالت على عهد الحب والوفاء له ، ولم تتزوج، فيظل يعيش على حلم الالتقاء بها.
وهناك شخصية (سعد كابور) الذي يعشق الممثل الهندي (راجي كابور)، ويمتهن الشقاوة ويقرر الأخذ بثأر نايف الساعدي فيهجم على مركز (شرطة التهذيب) في منطقة الجوادر ويحرر السجناء فيه، لكنَّه، وأصحابه يلقى القبض عليهم ويسجنون عشر سنوات.


ولا يترك الكاتب شخصيةً ـــ ولو عابرةً ـــ  حتى يتقصى أخبارها، ويتتبع تطوراتها فالقص عنده مثل حكايات ألف ليلةٍ و ليلةٍ، فتكون كل حكاية تضمر في باطنها حكايةً أخرى، ومثال ذلك انَّه حين يتناول قضية إعدام لاعب كرة القدم (بشار رشيد) سنة 1978‪ م بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي، وهو لاعبٌ في فريق آليات الشرطة بعد سنتين ونصف من اعتقاله، لا ينسى أن يشير الى مجيء (بلقيس) الجميلة المبرقعة التي حرمها ابن عمها من الزواج بمن تحب، فاعتزلت الحياة الزوجية مرغمةً، وامتهنت الخياطة، لكنَّها ما ان سمعت بخبر إعدام بشار رشيد حتى كسرت العزلة، وجاءت الى أم بشار لتعزيها.
ومن أكثر الحكايات إيلاماً قصة زواج مديحة سلمان، وطلاقها بعد سنتين إثر معاناتها من زوجها السكير وأمه التي تشترط أن تقوم الكنة بالسرقة للرضا عنها! وحين لا تستجب مديحة لها تلفق الأم لها تهمة الخيانة الزوجية، فتضطر الى الذهاب الى الإمام العباس وتقسم بأنَّها بريئة مما رميت به، ثمَّ تطلب الطلاق بعد أن تفقد الكثير من انسانيتها من هذا الزوج الرعديد الذي يتعمد ضربها يومياً؛ إرضاءً لأمه، لكنَّ أخاها علي سلمان يطيب خاطرها بالقول : ( إنَّ الحياة لا تنتهي بطلاق أحد، الحياة مستمرةٌ وهي مليئةٌ بالفرص والمصادفات) ص222.


ومع أنَّ إعدام بشار رشيد جاء ضمن سلسلة من الإعدامات التي أرادت سلطة البعث أن توطد بها سلطانها الدموي. الا أنَّ السلطة بدت خائفة مذعورةً، والكاتب يصف الوضع السائد آنذاك بالقول : (خيَّم على المدينة جوٌ من الوجوم. توقفتْ حركة السير في شوارعها، فغدت خاليةً إلا من سيارات الشرطة، ورجال الأمن الذي زود بأوامر باعتقال كل من يتسبب باضطرابات… ولعدة أيامٍ تجمدت الحياة في قطاعات المدينة كلها. أغلقت الدكاكين أبوابها. أطفأت المقاهي أجهزة التلفزيون وآلات التسجيل، وجلس الرياضيون، وعشاق كرة القدم، والشباب اليساريون على تخوتها يفكرون بغياب أحد رموز مدينتهم وبلادهم. مقهى قاسم بلاسم قرر توزيع الشاي مجاناً لمدة ثلاثة أيام، رداً على منع السلطات عائلة بشار رشيد من إقامة مجلس عزاء يقدم فيه الشاي عادةً، فالمقهى مقر فريقه الأول: الزمالك، كما انَّه مقر لفرقٍ رياضيةٍ أخرى معروفةٍ في المدينة كانت ترى في بشار رشيد رمزاً لها وقدوةً لشبابها.) ص216
لقد تطرق الكاتب الى قضية مدير الأمن ناظم كزار الذي كان يتلذذ بتعذيب المعارضين من خلال شخصية حارسه (فلاح الدرويش) أحد سكنة مدينة الثورة، وقد انضَّم الى سلك الشرطة، وانتمى الى حزب البعث، وصار في مديرية الأمن ونقل الى حراسة سجن (قصر النهاية)، ثمَّ اتخذه ناظم كزار مرافقاً له وقد إعتُقل مع ناظم كزار في محاولته الانقلابية سنة 1972م، وأُعدم معه، وقد ألقي القبض عليه مع مدير الأمن وضابطين، وسبعةٍ من مفوضي الأمن، وستة عرفاء، ونواب عرفاء أثناء فرارهم باتجاه الحدود الإيرانية وصدرت عليهم أحكام بالإعدام نفذت فوراً.
ولم يذكر الكاتب شيئا عن جرائم (أبو طبر) تلك الجرائم  البشعة التي هزت المجتمع البغدادي سنة 1973 م ربما لأنَّها لم تكن لها علاقةٌ بمجتمع المدينة كونها كانت تستهدف بعض بيوت المناطق الغنية  لكنَّه سلط الضوء على ما تسمى بـ(بالجبهة الوطنية والقومية) التي زعمت السلطات أنَّها تضم حزب البعث، والحزب الشيوعي وكانت فخاً محكماً لاصطياد الشخصيات الشيوعية البارزة وتصفيتها.
لقد استطاع الكاتب من خلال خمسة عشر فصلاً أن يغطي مساحة سنوات الصراع بين السلطة، والشعب، وهي سنوات السبعينيات، ولم يتطرق الى وجود التيار الإسلامي مع أنَّ البعث بدأ بمحاربة الإسلاميين مبكراً، ووصمهم بالرجعية، لكن وردت في الرواية إشاراتٌ الى محاربة المتدينين منها: منع إقامة الشعائر الحسينية، كما  أنَّ بداية حكايات مجتمع خلف السدة كانت عن طريق (سيد جار الله) الذي اكتشف المنطقة، ودفن فيها، وربما يعود سبب عدم إعطاء صراع التيار الإسلامي مع البعث الى كون المدة الزمنية التي تجري فيها أحداث الرواية لم يكن للقوى الإسلامية وجودٌ فاعلٌ ومؤثرٌ.
لقد كانت نهاية الرواية صادمةً ومفجعةً، فكما بدأت الرواية بقوةٍ انتهت بقوةٍ، فالأم مكية الحسن تفتقد ولدها علياً الذي لم يعد الى بيته، وحين تستفسر عنه يخبرها المختار انه رهن الاعتقال عند الجهات الأمنية، مع انَّه لم تكن له ميولٌ سياسيةٌ الا في عدم انتمائه الى حزب البعث،وله علاقةٌ بشخصٍ شيوعيٍّ هو علوان عزيز، وبينما كانت الحكومة تجري عمليات التنقيب عن النفط في مدينة الثورة كان الناس مشغولين بانتظار عودة أبنائهم المعتقلين والمحتجزين، والمفقودين.
يصف الكاتب حالة مكية الحسن بالقول: (توالت الأيام ببطءٍ شديدٍ كسلاحف منهكة فيها، كانت مكية الحسن تطفو بسكون فوق نهر الزمن الرتيب، أو تهبط شيئاً فشيئاً نحو شيخوختها وعزلتها..) ص277.
ويصف لحظاتها الأخيرة بالقول: (.. إمتد الضوء الى جسم مكية الحسن الضامر الصغير الممدد كمخدة رخوة، ثمَّ الى صندوق عرسها حيث ترقد في طبقاته السفلى المعتمة صورة علي سلمان الى جانب صورة الزعيم عبد الكريم قاسم: حياة مودعة في حقيبة القدر.
في لحظةٍ هاربةٍ من لحظات الخيال الدامي رفعت مكية الحسن رأسها عن الوسادة فرأت ابنها في ليلة زفافه ببدلةٍ زرقاء، والى جانبه زوجته بملابس بيض، وخلفهما مئات الموسيقيين الذين يحملون آلات نفخٍ نحاسيةٍ تلامسها أضواء المصابيح، فتعكس بريقاً وامضاً متفاوتاً، كانوا يمشون في دربٍ مشعٍ كما لو أنَّه رصف بالكواكب يعزفون لحناً من دون صوت، لحناً لا يسمعه أحد سواها.كان ذلك آخر مشهد رأته في حياتها قبل أن تغمض عينيها الى الأبد، ومن حولها بناتها الثلاث حليمة وصبيحة ومديحة اللائي تبادلن السهر خلال الأيام الماضية) ص 285 ــ 286 وبموت مكية الحسن المفزع والدرامي تصل الرواية الى ذروتها، ففقدان شخصيةٍ قويةٍ مثل شخصيتها خسارةٌ تضاف الى الفقدانات الكثيرة، فالمدينة حل بها الفقدان حين حل بها حزب البعث وبقي سكانها ينتظرون عودة من فقدوهم في رواية فقدان من الطراز الأول!

….
(دروب الفقدان) رواية للكاتب عبد الله صخي ـ دار المدى للصحافة والنشر ـ بغداد 2013 م. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى