في اللَّوحةِ أُشْبِهُنِي .. الوقوف أمام مرآة محمود درويش

معين شلبية | فلسطين

أَعترفُ الآنَ بأَناقةِ أَميرٍ تليقُ بهِ، بأَنَّ محمود درويش ما يزالُ الوَهَجَ الإِشراقيَ الأَصْفَى والأَنقَى والأَجملَ والأَقربَ إِلى روحي منذُ الأَزلِ وإِلى الأَبد، حَمَلَني وما يزالُ يَحْمِلُني نحو حدائقَ غنَّاءَ وفراديسَ حزينةٍ يسكُنُها، ما أَزالُ مفتوناً به وبها إِلى يومنا هذا.  

منذُ خمسينَ عاماً وأَكثر، وأَنا أَتقلَّبُ عَلى فِراشِ الإِدمانِ الجَّماليِّ، فِراشٍ رقيقٍ كأَنَّهُ جَناحُ فَراشةٍ. دائِماً، فيْ حقيبتي، عَلى طاولتي، أَمامي ثمَّةَ كتابٌ أَو أَكثر لمحمود درويش؛ دَهِشَاً أَغسلُ وجهي بماءِ صورَتهِ، أَشربُ قهوتي مع قصيدةٍ وأُلامسُ أُخرى. أُنقِّح ليلي بكرمِ نداهُ فيْ بركانِ وجعٍ وافتتان. هكذا يصبحُ الحُزْنُ أَكثرَ أُنوثَةً والقلقُ شَطْحَةَ الْكَوْنِ الحَشُوْد.

مَدينٌ أَنا، لِوَعْيي الأَوَّلِ الَّذي أَبقاني دائِماً عَلى حَوافي البُكاءِ، للمطرِ النَّاريِّ كلَّما قرأْتُ أَو سمعتُ “محمود درويش”؛ كانَ الحزنُ يجتاحُني فَجأَةً عَلى تدفُّقِ سحرِهِ ما بينَ عذابِ الشِّعرِ وموتي الشَّرُود؛ هكذا تفتَّحتْ ذائِقتي الْجماليَّة عَلى عَجَلٍ وبقيتُ أَسيرَها حتَّى يومِنا هذا.

هُوَ خِفَّةُ الأَبديِّ فِي اليَوميِّ

أَشواقٌ إِلى أَعلى

وإِشراقٌ جميل.

وهكذا، ما يزالُ الشَّاعرُ محمود درويش يحظَى بالمكانةِ الأرفعِ الَّتي قلَّما حظيَ بها شاعرٌ في الثَّقافةِ العربيَّةِ والعالميَّةِ الحديثةِ، هذهِ الَّتي احتضنتْ الوجدانَ الجمعيَّ للأمةِ بتحويلهِ الشَّعر إلى طاقةٍ روحيَّةٍ وماديَّةٍ، جماليَّةٍ ومعرفيَّةٍ، ثقافيَّةٍ ووطنيَّةٍ وحالةٍ من التَّعاقدِ الشَّاقِ مع مشروعٍ شعريٍّ قامَ على تطويرِ وتطويعِ البلاغةِ والبيانِ والمعاني والبديعِ والأدواتِ والأساليبِ الَّتي تضمنُ للشِّعرِ أنْ يواصلَ الحياةَ في مجالاتِها المختلفةِ، خاصَّةً ملقَى الشِّعريِّ بالتَّشكيليِّ في العديدِ من قصائدهِ ومن ثَمَّ من اللُّغويِّ إلى البصريِّ الَّذي استلهمهُ واستوعبهُ الفنانونَ التَّشكيليون.

لذلكَ، ليس غريباً أنْ يتحوَّلَ الشَّاعرُ الكبيرُ الرَّاحلُ محمود درويش إلى علامةٍ فارقةٍ ولافتةٍ للبصيرةِ والبصرِ في الفنِّ التَّشكيليِّ، خاصةً بفتحِ الجملةِ الشِّعريَّةِ على ما يقابلها من صورةٍ مرئيَّةٍ، أو تحويلها إلى تكوينٍ بصريٍّ، فيه تحوَّلَ من شعرهِ ونصوصهِ وسيرتهِ الذَّاتيَّةِ إلى اجتهاداتٍ كثيرةٍ من الفنِّ التَّشكيليِّ، خارجةٍ عن المألوفِ، مفتوحةٍ على المدى الواسعِ البعيدِ، من نحتِ الزَّخارفِ والأعمالِ الخزفيَّةِ إلى الفسيفساءِ والتُّحفِ وفنِّ النَّسيجِ والجدارياتِ والتَّصويرِ التَّشكيليِّ في فنِّ الخطِّ العربيِّ نحو نقلِ الجملةِ الشِّعريَّةِ إلى لوحاتٍ ومخطوطاتٍ تحتوي على مجموعاتٍ كبيرةٍ من الرُّسومِ الملوَّنةِ، ملصقاتِ الحيطانِ وسائرِ الفنونِ الجميلةِ العابرةِ للنوعيَّةِ، المستوحاةِ من أشعارهِ وقامتهِ الوسيمةِ المنتصبةِ أبداً وكأنَّ صوتَهُ العذبُ يقول: في اللَّوحةِ أُشْبِهُنِي.

عشقَ محمود درويش الرَّسم منذُ طفولتهِ، وعبَّر عن ذلك في لقاءٍ صحفيٍّ في باريس، جمعَ بينهُ وبين الصَّحفية اللُّبنانية الشَّابة إيفانا مرشليان عام 1991، لقاء صحفي كانتْ تتمنَّاهُ إيفانا وقد تأجَّلَ مرتين إلا أنَّها أنجزتهُ في ثالث زيارة لدرويش، دوَّنهُ لها بخطِ يدهِ، صدر لاحقاً في كتاب أسمتهُ الصَّحفية بعد وفاته “أنا الموقع أدناه محمود درويش”. في الكتاب أيضاً دار نقاش بينهما على هامشِ إجابتهِ عن أسئلتها، تحدثا عن طفولتهِ، فقال لها من بين ما قالَ، إنَّه حينَ كانَ طفلاً كان حلمُهُ أن يصيرَ رسَّاماً، لكنَّه لم يستطعْ، لم يكُنْ معهُ ثمن الألوان، وكان الأسهل أن يحصلَ على ورقةٍ وقلم ويكتب، ولذلك صارَ شاعراً لا رسَّاماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى