بأي روح كُتِبتْ.. رسالة إلى الموت

إبراهيم محمد الهمداني | اليمن

إنها اللحظات الفاصلة بين النور والظلمة، لا يهم إن كانت في بداية يوم أو نهايته، فهي فيهما سواء، إذ تكسو الوجود صفاء وتخصِّب الروح بتأمل عميق.. هناك بعض الكلمات تتلمس طريقها في غياهب الكبت، تسعى لتطبيب جرح ظن اندماله تكشيرا وعبوسا، فآثر أن يظل مبتسما وكريما، يجود بابتسامات عميقة لكل ما حوله… أهدى روحه لومضة سراب، فعبثت بها كما يعبث طفل بكومة جواهر بين يديه، لا يبالي إن داسها، أو قضى حاجته عليها، لأنه لا يعرف قيمتها، غير أنها كانت تعرف ولم تبالِ، فكان عطاء من يملك لمن لا يستحق، وحدها الطعنة تعرف أن كلمات الأسف لن تشفيها، وأن الندم لن يغير مرارة النصل في فم الجرح.

هل بإمكان كلمة “فراشة” أن تطير وتغري الطفل بملاحقتها من زهرة إلى أخرى؟ أم هل تستطيع أن تمارس طقوسها الوثنية في محراب اللهب؟!!

جرح واحد فقط استطاع أن يفني سعادته، حين وهبها لشقاء الأرض، ولم يكتفِ بذلك، بل طاف كل منابع النكبات وجحيم العذابات، فلم يمر بمأساة إلا احتضنها، ولا عذاب إلا احتواه، ولا شقاء إلا احتمله، ولا دمعة إلا استبدلها بفرحة غامرة، وكأنه المعني بتنقيح الحياة من الآلام والمآسي، بيد أنه لم يكن سيزيف الذي اختط المعاناة، ولا المسيح الذي دفع ثمن خلاص البشرية، كان فقط هو الذي يرى الحياة أهون من أن تعامل بجدية صارمة، وأرفع من أن تؤخذ بلا مبالاة، فتكفل لها بدفع أقساط هائلة من المعاناة اليومية، علَّه يتمكن من تسديد ولو جزء يسير من المآسي البشرية المتراكمة، التي اقترضها وانتفع بها غيره.

وحدها السماء كانت معه ترافقه بنظراتها الحانية مشفقة عليه.. إنه المأساة التي تمشي على الأرض، بل هو الموت الذي يهب الحياة، ويدفع ثمنها غاليا، ولا يريد بذلك أن يصبح أسطورة، أو أن يذكر على قائمة المشاهير، أو أن يعزف اسمه على ربابات الرعاة في الليالي المقمرة، لم يطلب شيئا، فقط كان يبتسم حين تثور عليه الآلام، ثم يعانق السماء بعينيه، ويخبئ في روحها كلمة صادقة لا يعرفها سواهما، تلك هي اللحظة الأكثر خطورة وصدقا، فالوقت الذي يستغرقه نطق (نعم أو لا)، يترتب عليه مسار حياة بأكملها، وفي معبد الشمس حيث كانت الصلوات والأدعية تتكلس على الجدران، والنذور تتثاءب فوق الأعمدة، وخيوط البخور تنسج بيتا لأحلام البشر، ودماء القرابين تشكل علامات استفهام متناثرة لا نهائية، على ساحات المذابح، هناك كان يكتب ترنيمة للسماء:
مذ نفيت وأنا أبحث عن وطن لوطني..
أي دهشة سيضيفها الموت حين يدهمني؟ أتمنى عليه ألا ينتظر مني وليمة فاخرة، فإني لن أترك له غير حزمة عظام بالية، تلفها أسمال جسد متهالك.

عذرا عزيزي الموت:
هذا عشاؤك الأخير.. ولتتناوله في حفرة محكمة الإغلاق، أما أنا فقد منحتني السماء جنة تليق بحبي وحزني.

الشمعة لا تعرف العلاقة بين ضوئها ولهبها، حتى السماء تقرأ السعادة لكنها لا تدري بأي روح كتبت؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى