حَديثٌ عفويٌّ لمُهاجرٍ في متحَفٍ للفُنونِ المُعاصِرَة

د. إيهاب بسيسو | فلسطين
قالَ المُهاجِرُ:
وُلدتُ حِينَ ماتَت ذَاكِرَتي …
هكَذا صِرتُ ابناً للمَوتِ
صَديقاً لحفَّاري القُبورِ
وصَانِعي التَّوابِيت …
بِلا ذَاكِرَةٍ أصحُو كُلَّ يَومٍ
بِلا رَغبَةٍ فِي استِعَادَةِ غِيَابٍ مَفقُودٍ
مِن جُثَّةِ وَقتٍ مُهمَل …
لا أحِنُّ
لا أموتُ
لا أحيَا …
أُمرِّرُ الوقتَ كعَامِلٍ مُنهَكٍ
فِي مَصنَعٍ للنَّسِيج …
أُخِيطُ أكمَامَاً للخَوفِ
والفَزَعِ اللَّيلِي …
الفَزَعُ مِن العُزلَةِ
والصَّمت …
الصَّمتُ الجَافُّ كَجُثَّةٍ مُهمَلَة …
فِي اللَّيلِ
تَنمُو الأكمَامُ أذرِعَةً …
تَتَسلَّقُ الجُدرَانَ
والبِنَايَاتِ المُجاوِرَة …
بَحثاً عَن ضُوءٍ يُشبِعُ غَرِيزَةَ الأَرقِ
في البَقَاءِ حَيَّاً …
وأحيَاناً تَغِيبُ طَوِيلاً فِي العَتمَةِ
قَبلَ أن تَعودَ بِنُصُوصٍ طَوِيلَةٍ
عَن الضَّجَرِ …
وقَلقِ الضُّوءِ في الضَّواحِي
وقِطَطٍ جَائِعَةٍ
تَفتَرِسُها سيَّارَاتٌ مُسرِعَة …
///
وُلِدتُ مِن هَواءٍ رَاكِدٍ
قَال …
فِي مُتحَفٍ للفُنونِ المُعَاصِرَة …
كانَ صَوتِي ذَائِباً فِي عَجِينِ الألوَانِ
وكُنتُ أبحَثُ عَن هُدوءٍ
بِلا زُوَّارٍ …
يَبحَثونَ فِي تَشَكُّلاتِ الخَرَابِ
عِن حِكَايَةٍ مَا …
كُنتُ جَسَداً فِي لَوحَةٍ
مَكشُوفاً عَلَى البَشَاعَةِ المُسَمَّاةِ حَرباً …
أقِفُ كُلَّ يَومٍ بِلا حِرَاك
أمَامَ دَهشَةٍ مُصَابَةٍ بِالصَّمتِ
والتَّوتُّر …
وحِينَ أعوُدُ وَحدِي إِلى البَيتِ
أصطَحِبُ جَمَاجِمَ الذِّينَ هَربُوا مِن فُضُولِ الكَامِيرَا …
نَجلِسُ طَوِيلاً حَولَ شَمعَةٍ ذَابِلَة …
لا نَتَبادَلُ حِكَايَاتِ الذَّاكِرَةِ
أو قِصَصَ مَوتٍ بَعِيد …
نَتَحدَّثُ عَن نَقصٍ فِي مَلامِحِ الضُّوءِ
عَن خَللٍ فِي كِيميَاءِ الهَوَاءِ
حِينَ نَتنَفَّس …
فَتَنفَجِرُ رِئَاتُنا مِن الضَّجَرِ
وشُحِّ الأُكسُجِين …
وقد نَتَبادَلُ تَعلِيقَاتٍ مُبهَمةٍ
عَن نَظَرَاتِ الزُّوَارِ المُرتَبِكَةِ
بَينَ وَقتٍ مُهشَّمٍ في اللَّوحَاتِ
وحَدقَاتٍ خَفِيَّةٍ
تُطِلُّ مِن صَخَبِ الألوَانِ
بِصَمت …
///
وُلِدتُ مِن غَيمَةٍ مُشبَعةٍ بالدُّخَانِ
ثُمَّ انتَهَيتُ فِي بُحيرَةٍ بَارِدَة …
ذَاتَ يَومٍ …
التَقَطَت أمٌّ صُورَةً فُوتُوغرَافِيَّة
لصَغِيرِهَا عِندَ حَافَّةِ المَاء …
وعِندَما نَظرَت فِي الصُّورَةِ
رَأَت ظِلالاً رَمادِيَّةً
تظهر كَبَقَايَا وُجوهٍ
خَلفَ رَأسِ الصَّغِيرِ المُبتَسِم …
كُنتُ هُنَاك
بِلا مَوتٍ
بِلا حَيَاة …
أُطِلُّ عَلَى القَادِمِين إِلى البُحَيرَةِ
بِوَجهٍ خَفِيٍّ مِن المَاء …