الجيل القادم.. تحرير للعقول، أم هدم للجسور؟

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
هروبا من زخم الانتخابات، وصخب الشارع السياسي الذي تلاحقك لافتاته وأحاديثه، آويت مع ثلة من الأصدقاء إلى ركن قصي نسترجع عبق الذكريات الثرية، والأيام الخالية القابعة في ذاكرة الوفاء والاعتراف بالجميل، إلى صومعة شيخنا فضيلة الشيخ “عبد الفتاح سيد جمعان” (العلمية).

وهناك حدت بنا مطايا الشوق إلى رحلة مضت، من الشغف والتساؤلات والتعلم والإنصات والإجلال، والسعي إلى فك رموز كثير من علامات الاستفهام العلمية والاجتماعية؛ فيبين لنا بعضها، ويحجب عنا البعض ليس ضنا بالعلم، ولكن رُحما وشفقة بهذه العقول الغضة التي لم تكتمل بعد في صلابتها.
في رحاب منزل الشيخ أمضينا أوقاتا، وبين يديه، وتحت منبره منصتين خاشعين متعلمين، وفي ركابه الذي كان يزف كأنه أحد الفاتحين، بعباءته الأزهرية وعمامته اللتين طاف بهما أرجاء الأرض، واللتان ما كانتا ترى في أي بقعة على أطرافها إلا تقف لها العقول والأبدان إجلالا، مهابة للعلم وللعلماء، وإكراما للأزهر وشيوخه.
هذه الكوكبة التي لمعت نجومها في سماء العلم ، وفي مسامع البلدة زمنا، من أمثال: الشيخ محمد أبو سعده، والشيخ عبد العظيم فشول، والشيخ عبد الفتاح جمعان، وغيرهم.

ترى إلى أين آل ذكرهم وآثارهم وما قدموا؟ وأين ذهب تراثهم العلمي؟ ومكتباتهم إلى أي ركن خامل أوت بعيدا عن الذكر والعلم، وقد كانت يوما حديث الناس؟!..
وما الذي أغفل أو أسقط ذكر هؤلاء الأفذاذ من ذاكرة التاريخ المجتمعية للبلدة والبلاد، وأمثالهم؟
واخشع مليا واقضِّ حق أئمةٍ

طلعوا بها زهرا وماجوا أبحرا

فكانوا أجلّ من الملوك مهابة

وأعز سلطانا و أفخم  مظهرا.
مع هذه الثلة من الأصدقاء رغم تباعد فواصل العمر، إلا أنه يجمعها رباط – وإن عز اللقاء لبعض عوارض الحياة – يكاد يعز تحققه في مثل هذه البلاد التي آلت على نفسها ألا تخرج عن قوالب التاريخ، وأن تظل أسيرة لرسومه وطقوسه مهما امتد بها الزمن، فيجنح البعض إلى التوافق المجتمعي النسبي، ويأبى البعض الآخر إلا الانفكاك من جاذبية هذه المركزية التاريخية، والانفلات من مداراتها، والخروج على حالة التعادل الكهربية لذرات المجتمع.
هذا الرباط الجامع هو: الأمل في صنع غد جديد متحرر من القيود المكبلة من بعض الموروثات الاجتماعية، مستمسكا بعبق الماضي وأصالته التي عرجنا على بعض كواكبها؛ ومن عمق القناعة التي تقول: إن الأمة التي ليس لها ماض تحفظه، لا تستحق حاضرها ولا مستقبلها، ولا يمكن أن تعيهما؛ حيث لا تعرف أين تقف، ولا إلى أين تتجه؟
تحدثت قريبا إلى أحد أساتذتي: أن يدا ليست بخفية، تعمل ساعية على هدم هذه الجسور من التواصل بين الأجيال، لتصنع جسورا على مثالها، وتكاد تكون قد نجحت في جزء كبير منه، ثم تسعى جاهدة في حرق سفن النجاة الساكنة على مرافئ الشيخوخة، وأرصفة العمر، وبرغم أنها قد لملمت أشرعتها، لكنها رابضة ترقب من بعيد خطوات أبنائها “أكبادها تمشي على الأرض”، تأخذ بحجزها وهم يتهافتون تهافت الفراش على النار، يتفلتون منها.
فصلت وسائل التواصل، وفنون التقنية هذا الرباط الفطري الذي كان يصل الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، وأوهنت هذه الجسور التي كانت تعبر عليها الأجيال من بعضها لبعضها، يأخذ أحدهما من الآخر، يلوذ به حين تعرض للشباب عوارض الغيب المكشرة المكدرة، أو تسفر وجوه الحياة عن أنياب لم يعتدوها، فيجد أحدهم في امتداده الطبيعي الهدى والنجاة،
هذه العصمة النفسية والعقلية التي كانت تصنع على عين الأسرة والمدرسة والكتاب والمعلمين، والمجتمع السوي، قد وهنت، ورخت هذه الأرض الثابتة التي كان يقام عليها عمد التربية، واختطفت هذه العقول من أحضان أسرها اختطافا، ثم غدت أسارى لهذه الوسائل؛ حتى أعمار النقش الأول لم تسلم ببراءتها من سطوة الألعاب والأفلام وابتزاز العقول، وانفكت الأجيال من أفلاكها ومداراتها الطبيعية، كشهب تهوي لا تدري بأي أرض أو سماء ترتطم؟
ولأول مرة نرى هذا الاستسلام والعجز الأسري والمجتمعي والدعوي عن التصدي لهذا الوارد الجلي المتسلط على أبنائنا وأجيالنا المقبلة، والمغير عمدا لما ألفناه من أصول التربية أمام الأسماع والأبصار، والمبدل أمننا الأسري والمجتمعي قلقا، مستبدلا ولاءات الدين والأسرة والمجتمع والوطن بولاءات وانتماءات شتى “كل حسب ما أشرب من هواه”، مستقبلا لكل ما تمليه هذه الفضائيات ببريقها وصناعتها الإعلامية المؤطرة والممنهجة والمؤدلجة.
حروب الجيل القادم، استعيض بها عن المدافع والقنابل، وجعل مكانها هذا السارق الخفي الذي يخطف الأسماع والأبصار والعقول، ويحول الشباب جسوما ومسوخا مفرغة من العقول.
وإذا كانت جسور الماضي لا تزال منها “أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض” إلا أن المنتظر من جسور القادم ألا تكون جسورا، حيث ربيت في هذا العطن، ورضعت من هذا الزخم الفضائي الملوث الملون، وأشربت في قلوبها كل ما يرد من مادته خبيثا وطيبا، فماذا يرتجى منها حين تؤول إليها مقاليد الأمور؟!
ولا نزعم انعدام فوائد التقنيات ومنافع تكنولوجيا الجيل الرابع والخامس التي انتشلت الأمم الواعية من قيعان وسراديب التخلف والرجعية، مع ما لها من ضرر بين ملموس نابع في أصله إلى سوء الاستخدام الذي منشأه التراجع الحضاري.

إلا أن المقارنة لا تكون عادلة بين بخس النفع وعظم الضرر.. وإنما الموازنة تقتضي أن نفطن لما يحيق بنا من تحول العقول، واختلاف الولاءات.. خاصة إذا تعلق الضرر بالدين والخلق والعلم والتربية، ومستقبل البلاد.
وهي في النهاية صرخة مكظوم تنعي القادم من المستقبل حيث تبدو بوادره غير مبشرة، وتدعو لعودة إلى إقامة الجسور، ومطالعة نماذج المأثور، والأخذ ببعض من تراث الأوائل، مع ما يرد من جديد الحاضر، ليكون جسرا آمنا إلى المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى