البردة الفلسطينية.. شعر: د. يوسف حطيني
يا صاحبَ الشِّعْرِ نَادَانِي منَ الحُلُمِ
“ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلمِ”
///
طيفٌ يداعبُ ذكرى ما فتئتُ بها
أرعى النّجومَ كرَعْيِ الإبْلِ والبُهُمِ
///
طيفٌ سَرَى حينَ كانَ النّاسُ في سِنَةٍ
لمَّا تجلَّى كَنُورِ الشّمْسِ في الظُّلَمِ
///
هل أذرفُ الدَّمعَ بعدَ الحُزْنِ من فرَحٍ
ليلاً وقد آذنَ المحبوبُ باللَّزَم[1]؟
///
فكيفَ والقلبُ قدْ جفَّتْ مَدَامِعُهُ
“مزجتُ دمعاً جَرَى منْ مقلةٍ بدمِ”؟
///
فقلْتُ: تلكَ سُليمى ربّما حضرَتْ
تسقي بنفسجَ قلبٍ للّقاءِ ظَمِي
///
أو ربّما هطلَتْ ليلاً سحابتُها
مَنّاً وسلوى وذابَتْ في رحيقِ دَمي
///
أو ربّما أيقظَتْها خفقةٌ عبرَتْ
فأيقظَتْ بعدَ لَأْيٍ في الهوَى حُلُمي
///
وهل سترجعُ أيامٌ لنا سلفَتْ
مِن بعدِ أن قُتِّلَ التّهيامُ بالبَرَمِ؟
///
وراحَ طيفُ منامي يستعيدُ رُؤى
كطيبِها، إذْ سَقَاها عارضُ الرَّكَمِ[2]
///
أيّامَ تلعبُ في شيبي أصابِعُها
ونشتهي غمراتٍ في لَظَى الدُّجَمِ[3]
///
ويُسفرُ الملتقى عنْ أحمرٍ عَنَمٍ
أو أبيضٍ لَدِنٍ أو أسودٍ فَحِمِ
///
ويصبحُ القلبُ موجاً لا هدوءَ لهُ
يجتاحُهُ موجُ بحرٍ جِدِّ مضطَرِمِ
///
لكنّ هذا الّذي ألقاهُ ليسَ بِهِ
عهدٌ لمثلي وجلَّ النُّورُ عن سِيَمِ[4]
///
ماذا رأيتُ؟ متى؟ جلّ الضياءُ إذا
لم يدنُ في خاطرٍ يوماً لمُحْتَلِمِ
///
في هدأةِ اللّيلِ نورٌ لا شبيهَ لَهُ
مَنْ ذا يشبّهُ “ماذا” أو “متى” بـ “لَمِ”؟
///
أَتَى يحاورُ نَومي في ملاطفةٍ
فرُحتُ أحرسُ في قلبي صَدى النّغَمِ
///
فيضٌ من النّورِ وحيٌ في قداستِهِ
واللَّيلُ يحكي شجيّاً آيةَ العِظَمِ
///
هل كنتُ يوماً وليّاً كي يفاجِئَني
في هَدأةِ اللَّيلِ خيرُ الخَلْقِ كلِّهِمِ
///
من أيِّ دربٍ سَرى حتّى يراوِدَنِي
وينصحَ القلبَ بعدَ الذَّنبِ: لا تَهِمِ
///
وكي أنالَ سَعيداً دفْءَ بُرْدَتِهِ
مِنْ بَعْدِ عُمْرٍ غَذَاهُ الشَّيبُ بالهَرَمِ
///
وكي ألاقيَ يوماً من سيَسْمَعني
بقلبِهِ، حينَ هذا الكونُ في صَمَمِ
///
وكي يُعِيدَ عبيرُ الشِّعْرِ سيرَتَهُ
لأنَّ في سيرةِ المُختارِ ريَّ ظَمِي
///
وتستعيدَ بحورُ الشِّعْرِ زهوتَها
بسيرةِ المصطفى في أنصَعِ الكلِمِ
///
تبارَكَ النّورُ، ما في القلبِ خافقةٌ
مِنْ بعدِ أنْ جفَّ كلُّ الماءِ في لَعَمي[5]
///
وهل يقالُ لِطَيْفِ المصطفى كَلِمٌ
مِنْ بعدِ أنْ أخذَتْني حبسةُ اللّسَمِ[6]
///
فلأستعنْ بالّذي أركانُ سيرتِهِ
تكونُ للنّاسِ طُرّاً خيرَ مغتنَمِ
///
لمَّا أتَى الأشرمُ المأفونُ مكّةَ كَيْ
يقضَّ أركانَها في جيشِهِ العَرِمِ
///
غَداةَ جرّ لها الأفيالَ مزدهياً
فجرَّ، وهو ذليلٌ، ذيلَ منهزمِ
///
وماتَ منكسراً من هولِ مرجمةٍ
لمّا تصدَّتْ لهُ الأطيارُ بالرُّجُمِ
///
فأطعمتْ جيشَهُ للسّابحاتِ ضُحىً
وفرّقتْ كلَّ جمعٍ منهُ مُلتئمِ
///
وباتَ منهُ وحوشُ البرِّ في شبَعٍ
وباتَ منهُ نسورُ الجَوِّ في تَخَمِ
///
وكيفَ يتركُ ربُّ العرشِ كعبَتَهُ
صَرِيعةً تَرْتَمي في حُضْنِ منتقِمِ
///
وهل لمكّةَ أنْ ترضَى الظّلامَ وقدْ
أراد ربُّكَ أن ترقَى على الأُمَمِ
///
يا مَنْ ولدتَ يتيماً يا ابنَ آمنةٍ
يا مَنْ أضاءَ دياجيراً مِنَ الظُّلَمِ
///
يا مَنْ أنارَ دُجى الدّنيا بمولِدِهِ
فكانَ نبراسَ ليلِ العُرْبِ والعَجَمِ
///
يا من غَذَاهُ نَدى الصّحراءِ مرحمةً
وحكمةً تُرتجى.. يا راعيَ الغَنَمِ
///
لم ترعَ قطُّ شياهَ القومِ مفردةً
لكنْ رعيتَ، كريماً، حُرْمَةَ الذّمَمِ
///
فكنتَ خيرَ الوَرَى عزّاً ومفخرةً
وكنتَ أسوةَ أهلِ الجُودِ والكَرَمِ
///
أصداءُ مكَّة تحكي العُجْبَ عن حجَرٍ
تقدّسَ السِّرُّ فيما ضَمَّ مِن عِظَمِ
///
في ظِلِّ كعبتها حارَ الأُلى اختلفُوا
فيمَنْ سيبلغُ مِنْ فخرٍ ذُرى السَّنَّمِ
///
أشرافُها يبتغونَ العِزَّ مغتَنمَاً
ومَنْ يجدْ مثلَ هذا العِزِّ يغتنمِ
///
تشاجرُوا بينهم: أيٌّ سيحمِلُهُ
وكادَ ينشبُ بينَ النّاسِ سفكُ دمِ
///
لولا قدومُ أمينِ القومِ مستَلِماً
بابَ الصّفا كقدُوم الحاذقِ الفهِمِ
///
قالوا: محمّدُ هذا نرتضي حَكَماً
مَنْ مِثْلَهُ نَرْتَجي في الحُكم والحِكَمِ
///
قال: احملوهُ جميعاً فوقَ ثوبِ رِضاً
وقامَ يرفعُهُ للموضعِ العَلَمِ
///
فباتَ كلُّ شريفٍ بينِهُم فرحاً
وحبْلُ وُدِّ قريشٍ غيرَ منفَصِمِ
///
هلّا سمعتَ، رسولَ اللهِ، صرختَنا
ونحنُ نحتارُ بينَ الذّلِّ والسَّقَمِ
///
هلّا أتيتَ لرأبِ الصَّدْعِ في وَطَنٍ
تناهبَتْهُ جُيوشُ الغدرِ والنّهَمِ
///
لزمتَ غارَ حِراءٍ طالباً قبَساً
يحيا بقلبٍ إلَى شَهْدِ الصَّلاةِ ظَمي
وكنتَ تبحثُ عن سرِّ الوجودِ بِهِ
وتقتفي ما حواهُ الكونُ من نُظُمِ
///
تحدّث النّفْسَ: ما في خَلْقِنا عَدَمٌ
يُفضي إلى عدَمٍ.. يُفضي إلى عدَمِ
///
حتّى أتاكَ أمينُ الله يحملُ في
وحْيِ النّبوَّة إبلاغاً إلى الأُمَمِ
///
وكانتِ “اقرأْ” طريقَ الرُّشْدِ صادعةً
مختالةً بينَ عِطْرِ النّونِ والقلَمِ
///
وظلّتِ “اقرأْ” شعاعَ الكونِ يتبعُهُ
من شاءَ جنيَ شذَا الأخلاقِ والقِيَمِ
///
دعوت سرّاً لدينٍ أنتَ قائدهُ
فصنْتَهُ من سهامِ الغدرِ والهتَمِ[7]
///
وظِلْتَ تبني ثلاثاً عِزّ شوكَتِهِ
ثمّ انطلقْتَ لهديِ النّاسِ كُلِّهمِ
///
ورحتَ تدعو إليهِ في علانيةٍ
ليخفقَ العَدْلُ راياتٍ على القِمَمِ
///
ويهدمَ النورُ ليلَ الغارقينَ بهِ
ويصعقَ الحقُّ ذلَّ الشّركِ والصّنَمِ
///
لما صدعتَ بصوت اللهِ مرتفعاً
جُنّتْ قريشٌ وثارتْ ثورةُ النِّقَمِ
///
فأثخنتكَ جراحاً لا اندثارَ لها
وحاولتْ أنْ تميطَ الحقَّ باللّثُمِ
///
كمْ مرّةٍ حاولوا أن يقتلوا جسداً
في روحِهِ تتجلّى أعظمُ الشِّيَمِ
///
لكنّهمْ ذهبوا في غمدِ خافيةٍ
وظلّ أحمد سيفاً غيرَ ذي ثَلَمِ
///
كذلكَ الفِسْلُ يمضي في حضيضِ غوىً
ويرتقي المصطفى ناراً على عَلَمِ
///
فأينَ عقبةُ في التّاريخِ، أينَ هُما:
أميّةٌ وأبيٌّ، هلْ هناكَ كَمي[8]؟
///
وأينَ أصبحَ في الدّنيا أبو لَهَبٍ
وأينَ زوجتُهُ حمّالةُ الضّرَمِ[9]
///
كمْ عذّبوكَ فلمْ يفلحْ عذابُهُمُ
كمْ أرهقوكَ بقولِ الزّورِ والتُّهَمِ
///
وأَرهقُوا مُصْعَباً بالجُوعِ تظلمةً
وجرَّبوا في بلالٍ كلَّ مختَرِمِ
///
وآلُ ياسرَ في البلوى تبشّرُهُمْ
“صبراً” فموعدُكُمْ في جَنّةِ النِّعَمِ
///
كم احتملتَ أذَى الكفّارَ في ثقةٍ
بأنّ سيفَ دعاةِ الحقِّ ذو صلَمِ[10]
///
قدْ حاصروكَ بشِعْبٍ رجوَ مهلكةٍ
حتّى بنو هاشمٍ عَضُّوا على الألمِ
///
وباتَ أهلكَ في جوعٍ وفي عطَشٍ
بلا كساءٍ، وجفَّ الضّرعُ في النَّعَمِ
///
رحماكَ طيفَ رسولِ الله، نحنُ هنا
في غزّةِ المجدِ بينَ الجوعِ والسَّقَمِ
///
قد حاصرَتْكَ ذوو الأرحامِ يا سندي
وحاصرَتْنا بغاةُ العُرْبِ والعَجَمِ
///
فهاشمٌ يكتوي في هولِ مسغبةٍ
أحفادُه، بينَ جورِ العِلْجِ والرَّحِمِ
///
لم يرضخوا للمآسي كيفَ نتركُهُمْ
والجوعُ يجعلهُمْ لَحْماً على وضَمِ؟
///
يجاهدونَ وفيهمْ كلُّ مخمَصَةٍ
ويرقصونَ بجرحٍ غيرِ ملتئمِ
///
ويشربونَ قذَى الأيّامِ من وَجَعٍ
ويأكلونَ كراماً كِسْرَةَ العَشَمِ[11]
///
كأنَّ ميّتَهُمْ قد عاشَ في رَغَمٍ
وماتَ في هذهِ الدّنيا على رَغِمِ
///
فما تلفَّتَ خِلٌّ نحوَهُم أبَداً
ولا تذكّرَ “جيرانٌ بذي سَلَمِ”
///
لكنّهمْ ما حنَوْا يوماً رؤوسَهُمُ
إلا ابتغاءَ رِضا الجبّار ذي النّقَمِ
///
في الأرضِ تحصدُهُمْ نيرانُ أسلحةٍ
تلاحقُ الطّفلَ في صبحٍ وفي غَسَمِ
///
وفي السّماءِ أبابيلٌ تحرّقُهم
بِوابلٍ من بطونِ القاذفاتِ عَمِ[12]
///
لكنّ في غزّةَ الشمّاءَ أُسْدَ شرىً
لا يبخلونَ بأرواحٍ ولا بدمِ
///
في كلِّ قلبٍ ترَى رغمَ الطّوى أمَلاً
ولهفةُ النّصْرِ ترتيلٌ بكلِّ فمِ
///
وكلُّ جرحٍ تراهُ نازفاً أبداً
في ذروةِ المجدِ سبّاقاً إلى السَّنَمِ
///
في ليلةٍ باركَ الرّحمنُ مَطلِعَها
أتاكَ جبريلُ ضوءاً في دُجى العَتَمِ
///
أتاكَ من فُرجةٍ في السَّقف منهمِلاً
على الفؤادِ كقَطْرٍ هَاطلِ رَهِمِ[13]
///
أتى ليغسِلَ صدراً باتَ منكسراً،
في حُزْنِ خفقتهِ، بالزّمزمِ الشَّبمِ[14]
///
ويملأُ القلبَ إيماناً على ثقةٍ
وحكمةً جلَّ مُنشيها عن التُّهَمِ
///
ويصطفيكَ لأمرٍ لا نظيرَ لهُ
ولا رأى مِثْلَهُ الأقوامُ في القِدَمِ
///
ليُخرِجَ النَّفْسَ من عصفٍ ألمَّ بها
ويسكبَ الماءَ برداً في لَظَى الغَتَمِ[15]
///
فقد دهتكَ دواهي الموتِ والتهمتْ
خِلَّيْكَ[16] والموتُ إن تُلهِمْهُ يلتهمِ
///
فبتَّ من كثرةِ الآلامِ في حزَنِ
والصدرُ مِن فرقةِ الخلّين في حزَمِ[17]
///
أتى ليحمِلَ فوقَ الغيمِ أحمدَهُ
على بُراقٍ يحاكي البَرْقَ في الخَذَمِ
///
يسابقُ النّورَ نحوَ القدسِ مجتهداً
فكيف يسعى إليها دونما حُثُمِ[18]؟
///
وكنتَ في المسجدِ الأقصى إمامَ هُدى
وخلفَكَ الرُّسْلُ مؤتمُّونَ بالعَلَمِ
///
موسى وعيسى وإبراهيمُ في نسَقٍ
يؤمّهم خيرُ مَنْ فيها منَ النّسَمِ
///
فبورك الجمعُ مؤتمّينَ قاطبةً
وباركَ المتعالي خيرَ مؤتمَمِ
///
وقالَ جبريلُ: ذا خمرٌ وذا لبنٌ
فاشربْ، فديتكَ، ما يُرضي نُهى البُذُمِ[19]
///
ورحتَ تَشربُ في ليلِ السُّرى لبناً
وما عبِئْتَ براحٍ سلسلٍ شَبِمِ
///
كذاكَ فِطْرَتُكَ اختارتْ طريقَ هُدى
فليس يرضى اعوجاجاً صادقُ الهِمَمِ
///
وليس يعرُجُ رُمْحٌ في مسيرَتِهِ
وليسَ يمشي صحيحاً ظاهرُ العَسَمِ[20]
///
ثمَّ انطلقْتَ بمعراجِ التُّقى ألِقاً
تطوي السَّماواتِ طَيَّ الصُّحْفْ والرُّقُمِ
///
وعندَ كلِّ سماءٍ خازنٌ حَرَسٌ
تكونُ من حرزِهِ المكنونِ في عَصَمِ
///
فإنْ أُجيبَ عَلَى بابِ السَّماءِ: هُنا
محمّدٌ فُتِّحَتْ مِنْ عِزّةِ الوَسَمِ
///
وكانَ آدمُ في استقبالِ أحمدِنا
وزاد إدريسُ ترحاباً بذي الكرَمِ
///
كذاكَ يحيى وهارونٌ وغيرُهما
ويوسفُ الحُسْنِ لم يغربْ عن الأمَمِ
///
حتّى بلغتَ جنانَ اللهِ مبتهِلاً
وطُفْتَ في بيتِهِ المعمورِ ذي العِظَمِ
///
ملائكٌ يذكرونَ اللهَ تلبيةً
يُسبِّحونَ بما شاؤوا من الكَلِمِ
///
ظفِرتَ بالمَلَأِ الأعلى وكانَ بهِمْ
جبريلُ يحكي ارتعاداً حِلْسةَ[21] الرّمَمِ
///
في سِدْرَةِ المنتهَى أُعطيتَ مغفرةً
لكلِّ مَنْ ماتَ لم يُشرِكْ مِنَ الرَّحِمِ
///
أهلوكَ أمّةُ خيرٍ ما يزالُ بهَا
خيرٌ كخيرِ نواصي الخَيلِ ذي اللُّجُمِ
///
وحزتَ آخرَ فِسطَاط الكتابِ[22] كمَا
سمعْتَ حتّى صَريفَ الوحيِ والقَلَمِ
///
وعدتَ تحملُ خمساً قد ظفِرْتَ بها
مِنْ بَعْدِ خمسينَ بينَ الضّوْءِ والعَتَمِ
///
تباركتْ رحلةً مِن مكَّةَ انطلقَتْ
ليلاً إلى القُدْسِ كي ترقى ذُرَى النُّجُمِ
///
تعالَ يا مُجتبى الرّحمنِ تكرمةً
وانظرْ بعينيكَ نحوَ القدسِ والحرَمِ
///
تَجِدْ جُنوداً مِنَ الأعلاجِ قاسيةً
قلوبُهُم يَخْلطونَ الطُّهْرَ بالقَنَمِ[23]
///
حيثُ المآذنُ أصواتٌ بلا شَفَةٍ
حيثُ الكنائسُ ترتيلٌ بلا نَغَمِ
///
والحائطَ المُتَشَهّي للبُراِق غَدا
مَبْكى لكلِّ غريبٍ غاصبٍ فَدَمِ[24]
///
وفتيةً يدفعونَ الضّيمَ واحدُهُم
كصَخْرةٍ في ثباتِ الثّابت الرُّزَمِ[25]
///
تعالَ يا سيّدي تلقَ الحِمامَ بكى
على حَمَامٍ بكى شَجْواً منَ الألَمِ
///
في كلِّ ناحيةٍ تلقاكَ أرملةٌ
وفي الزّوايا نداءاتٌ لمُعْتَصِمِ
///
تدقُّ أسماعَنَا ضعفاً ومسكنةً
ونحن عن رجْعِها المكلومِ في صَمَمِ
///
فقدْ دهتْنَا يَدَا دهماءَ داهيةٍ
مْنْ بعدِ دهرٍ مضى بالعزِّ واللّأَمِ[26]
///
كأنَّ داحسَ والغَبراءَ في دمِنا
في كلِّ مخصَمةٍ نهوي إلى القُحَمِ[27]
///
كُنّا نَجودُ على الدّنيا مفاخرةً
واليومَ نرجو عطاءً من ذوي القَزَمِ[28]
///
توحّدَ النّاسُ في شرقٍ ومغربهِ
وظلّ حُلْمُ رفاقِ الضّاد في عَكَمِ[29]
///
وفي السَّماءِ شحوبٌ لا يفارقُها
والشّمسُ في غبَشٍ والصُّبحُ في قَتَمِ
///
بتنا ضعافاً وصارَ الغربُ يأخذُنا
كما يُقاد بعيرُ القوم بالخُطُمِ[30]
///
لا بوقَ يُنْفَخُ في أشلاءِ وحدتِنا
أخنَى علينا الّذي أخنى على طَسَمِ[31]
///
رحماكَ يا مصطفى الرّحمنِ هل سندٌ
مِنْ بعدِ أن ضاقَ بالأصفادِ كلُّ كَمِي؟
///
يا من هجرتَ بلاداً كنتَ تعشَقُها
طوعاً لتحميَ دوماً بيضةَ القِيَم
///
هجرتَ مكّةَ في ليلٍ يحاصرُهُ
كفّارُها.. فاخترقتَ اللّيلَ في عَصَمِ
///
ورحتَ تتلو عليهم آيةً عجَباً[32]
وكنتَ تحثو تراباً فوقَ كلِّ عَمِ
///
خرجتَ من بينهم تغشاكَ رحمَتُهُ
ومَنْ يكنْ في حِمى الرّحمنِ يقتحمِ
///
حتّى إذا ارتشفوا آلامَ خيبتِهِمْ
سارُوا وراءَك في الآكامِ والهُشُمِ[33]
///
لمّا وصلتَ معَ الصِّدّيق مستتراً
في غارِ ثورٍ أتَى الكفّارُ بالنّقَمِ
///
يحاولونَ خيولاً لا تطاوعُهُم[34]
وهُمْ إلى دَمِكَ المعصومِ في نَهَمِ
///
وصوتُهُم عندَ بابِ الغارِ تسْمعُهُ
حتى ليُسْمَعُ مِنْ قربٍ صَدَى الكَلِمِ
///
فقالَ صاحبُكَ الصِّدِّيقُ فِي وَجَلٍ:
يروْنَنَا لو أطلّوا أسفلَ القَدَمِ
///
فقلتَ: إنّكَ ثانِيْ اثنينِ تكلؤهُم
عينُ الّذي صَوّرَ الإنسانَ في الرَّحِمِ
///
ونحنُ لا غارُ، لا صدّيقُ، لا سنَدٌ
من بعدِ أنْ أخذَتْنا غفلَةُ الحُلُمِ
///
فهل سينجو شريدٌ بعدَ غفلَتِنَا؟
وهلْ ستُنْجي غريقاً عَبرةُ النّدَمِ؟
///
هَجَرْتَ سرّاً وهُجِّرنا عَلانيةً
وسارتِ النَّكبةُ الكُبرى عَلى قَدَمِ
///
وأسلمتنا كلابُ البحرِ غمرتَه
كما تُسَلِّمُ أفراخاً إلى الرَّخَمِ[35]
///
كانتْ فلسطينُ فردوساً نهيمُ بِهِ
شوقاً إلى التّينِ والصّفصافِ والبُطُمِ
///
وطيبَ عيشٍ صَفا.. ما كانَ أجمَلَهُ!!
يزيدُهُ الأمنُ نعماءً على نِعَمِ
///
حتّى أتَى وعدُ بلفورٍ ليهدمَهُ
كهيئةِ الذّئبِ إذْ يسطو على الغَنَمِ
///
عجبتُ منه، رسولَ الله، كيف حَبَا
أبناءَ صهيون أرضَ الوُلْدِ والسَّلَمِ[36]؟
///
وليسَ يملكُ فيها عشبةً أبداً
فكيفَ يمكنُ أن يعطي بلا جَرَمِ؟
///
يا لَلنّساءِ، رأينَ الهولَ مختلفاً
ألوانُه.. بين ضَنْكِ الفقرِ والوصَمِ[37]
///
ألقتْ بهنّ عصا التّرحالِ في قُطُرٍ
يقتتْنَ ذًلَّ لجوءِ الحُرِّ في الخِيَمِ
///
يشربْنَ من علقمٍ فاضتْ مرارتُهُ
وقد يُصِبْنَ طعاماً سيّئَ اللّقَمِ
///
والصِّبْيَةُ السُّمرُ تحتَ الشّمسِ تلفحُهُمْ
نارُ الطّوى والكهولُ الغرُّ في غَمَمِ
///
مرّتْ سنونَ طِوالٌ ما نزالُ بها
قيدَ المنافي، وذُبْنا مِن لظى الألَمِ
///
نناشدُ الغربَ حقّاً كانَ أنكَرَهُ
ونطلبُ العدلَ من ميزانِهِ الضّجِمِ[38]
///
هَجَرْتَ سّراً وهُجّرنا علانيةً
وما عذابُ ضحايانا بمنكَتِمِ
///
وأنت أعلمُ بالأشواقِ مولَعَة
وأنتَ أعلمُ بالمشتاقِ واللَّذِمِ[39]
///
من غارِ ثورٍ ركبتَ الصَّعْبَ مُرْتحِلاً
نحوَ المدينةِ مصحُوباً بخيرِ حَمِ
///
وفي قِبَاءٍ بَنَى الإسلامُ مَسْجِدَهُ
فكانَ صوتاً لدينِ اللهِ كالرَّشَمِ[40]
///
قد كانَ فاتحةً غرّاءَ تتبعُها
مساجدٌ تُسمِعُ الدُّنيا صَدَى العِظَمِ
///
اللهُ أكبرُ تحيا كلُّ خافقةٍ
بها، ومنها يفوحُ الطِّيبُ في النّسَم
///
وصلتَ يثربَ إذ نوّرتَها كرَماً
وأقبَلَ النّاسُ مُشتاقينَ للقُثَمِ[41]
///
طلعتَ بدراً عليهِمْ بعدَ لهفتِهِمْ
فأطلقوا نغَماً يرقى إلى القِمَمِ
///
وأجزلوا الشُّكرَ للباري لأنّكَ في
ديارِهِمْ كسحابٍ مُقبلٍ هزِمِ[42]
///
وكانَ كلُّ جَوادٍ يبتغي شَرَفاً
بأن يكونَ مضيفَ الهاشمِ الهَشِمِ
///
لكنَّ ناقتَكَ المأمورةَ انتخبَتْ
مُناخَها، فأبو أيوبَ في نِعَمِ
///
أدخلتَ بينَ بني الأنصارِ إخوتكَ الـ
ـمهاجرينَ فكانوا سُدّةَ اللُّحَمِ[43]
///
هلّا أتيتَ لنا، ضلّتْ هدايتُنا
عن السَّبيلِ وباتَ القومُ في زِيَمِ[44]
///
وصلتَ يثربَ لا كي تستريحَ بها
لكنْ لكي تتقوّى دولةُ الشّممِ
///
وتحملَ الحقَّ ضوءاً يستنيرُ بهِ
مَنْ كانَ يحيا مدى الأيّامِ في الطّسَمِ[45]
///
إنْ نامَ غيرُكَ في نُعمى وفي دعَةٍ
فإنّ مَنْ شهدَ الغزْوات لم يَنَمِ
///
إن أنسَ لا أنسَ أيّاماً وقفتَ بها
مقاتلاً لم تُضِعْ درباً ولم تَهِمِ
///
لاقتكَ منهمْ جموعٌ فانتضيتَ لهُمْ
مهنّداً عنْ دمِ الكفّار لمْ يصُمِ
///
شهدتَ بدراً، فهل تثنيكَ كثرتُهُمْ؟
وأنتَ أكثرُ من جيشٍ ومن أُمَمِ؟
///
وهل سيثنيكَ ما لاقيتَ في أُحُدٍ
وقد أُحِطْتَ بأهلِ الشِّرْكِ كُلِّهِمِ
///
خرجتَ مِنْ بينِهِمْ ليثاً يساوِرُهُمْ
لم تُثنهِ غضبةُ الأعداءِ، لم يُضَمِ
///
ورحتَ من ظفرٍ تسعى إلى ظفرٍ
كأنّ صاعقةً قد وُكّلت بِهمِ
///
ولم تكلَّ ضروبَ الحربِ أوجعَها
ولم يكنْ سيفُكَ البتّارُ ذا ثَلَمِ
///
بضعٌ وعشرونَ مغزاةً علوتَ بها
وقومُك الصِّيدُ ما مالُوا إلى السَّأمِ
///
ومكّةُ المصطفى تدعوكَ كعبتُها
لكي تعودَ بجيشٍ عارمٍ عَرِمِ
///
هُمُ أخَلُّوا اتفاقاً أبرموهُ ومَنْ
ينقضْ عهودَ رسولِ اللهِ ينقصِمِ
///
دخلتَها بسيوفِ الحقِّ مؤتزِراً
ففَتَّحَتْ قلبَها من غيرِ سفكِ دمِ
///
ورحت تخترِمُ[46] الأصنامَ قاطبةً
ما ظلَّ من صَنَمٍ يبكي على صَنَمِ
///
وذاك صوتُ بلالٍ في السَّماءِ مضى
مُؤَذِّناً بنداءٍ غيرِ منكتِمِ
///
وحينَ جاءكَ أهلوها غفرْتَ لهمْ
ما قدْ أساؤوا فلَمْ تثأرْ ولمْ تَلُمِ
///
وقلتَ للجَمْعِ: لا تثريبَ فانطلِقوا
إلى الحياة.. ومَاتَتْ حِدَّةُ النِّقَمِ
///
طهّرتَ مكّةَ من رجْسٍ ومن دنَسٍ
وقدْ عقدْتَ حبالَ الوُدِّ والرَّخَمِ[47]
///
وصارَ ذكرُكَ والإسلامَ في مسَدٍ
كحبلِ ودٍّ مِنَ الأخلاقِ منتظمِ
///
فالنّاسُ قدْ دخلُوا في دينِهِمْ زُمَراً
وسبّحَ الكونُ إجلالاّ لذي العِظَم
///
ورحتَ تقصدُ حجَّ البيتِ مُتّبَعاً
بزمرةٍ برزتْ في كلِّ مزدَحَمِ
///
فقلتَ خيرَ وصايا منكَ خالدةً
ومن يَفُزْ بوصايا الحقِّ يلتزمِ
///
ثم انطلقتَ إلى الباري ورحمتِهِ
من بعدِ إكمالهِ الإسلامَ بالنِّعَمِ
///
لكنّنا ما التزَمْنَا ما أتيتَ بِهِ
لكي يرى النُّورَ مَنْ في الأعصُرِ الدُّهُمِ
///
كأنّنا لم نَصِلْ يوماً أخا رَحِمٍ
أو لم نشأْ مُرتقى الجُلّى ولم نَرُمِ
///
أوصَيْتَنَا بالأماناتِ الّتي انتُهِبَتْ
فلمْ نُؤدِّ سوى القُربانِ للنَّهِمِ
///
وحرمةَ الدّمِ قَدْ أوصيتَ نحفظُها
لكن جَرَى دَمُنا في السَّهلِ والأكَمِ
///
وخاضَ فينا بنو إخوانِنَا سفَهاً
وقتّلوا إخوةً منّا بلا سَدَم[48]
///
فكيفَ يا سيّدي ظُلْماً يُراقُ دمي
على يديْ إخوتي في الأشهُرِ الحُرُمِ
///
أشكو إليكَ سبيلاً حارَ سالكُهُ
أللَّيلُ أوّلُهُ واللَّيْلُ في اللَّقَم[49]
///
ولم أَجِدْ في المَدَى ما أستضيءُ بِهِ
سوى قَصيدةِ شِعْرٍ للفخَارِ نُمي
///
قصيدةٍ تتحرّى المصطَفى صُوراً
من سيرةٍ عَطَّرَتْ بالذِّكْرِ كلَّ فمِ
///
تطلُّ ذكرى على أطلالِ ذاكرةٍ
كطَيْفِ حِبٍّ وتستَجلي رُؤى الرَّسَمِ
///
أبثّها لكَ أبياتاً منمَّقَةً
لعلَّ فضلَكَ يُعليها إلى القِمَمِ
///
أردْتُها بردةً خضراءَ حاليةً
كوجهِ حيفا فلسطينيّةَ الوَسَمِ
///
لعلَّ قارِئَها تغشاهُ تذكرةٌ
للتُّوتِ والحَوْرِ والزّيتونِ والسَّلَمِ
///
وفي نهايتِها أُزْجِى الصّلاةَ على
غُرِّ الهُدَاةِ الأُلى أَسمْو بذِكْرِهِم
///
أخصُّ منهم صلاةً غيرَ زائلةٍ
تهمي على المُصطفى المخصوصِ بالسِّيَمِ
///
تدومُ ما دامَ في الأرضينَ مبتهِلٌ
وما سقى الزّرعَ فينا هاطلُ الدِّيَمِ
….
هوامش المفردات:
[1] اللّزَم: ملازمة الشيء بلا مفارقة.
[2] الرّكَم: السّحابُ المتراكمُ.
[3] دُجَمُ العشقِ والباطلِ: غمراتُه.
[4] السِّيَم: السّمات.
[5] اللَّعَم: اللّعاب.
[6] اللّسَّم: السكوت عيّاً لا عقلاً.
[7] الهتَمُ: الكسرُ.
[8] عقبة بن مُعَيط، وأميّة بن خلف، وأبيّ بن خلف.
[9] الضّرَم: الحطب.
[10] ذو صَلَم: قاطع.
[11] العشَم: الخبز اليابس.
[12] عمٍ: أعمى (اسمٌ منقوص)
[13] أرهمت السّماء: أمطرت مطراً خفيفاً متواصلاً.
[14] الشّبِم: البارد.
[15] الغتْم: شدّة الحرّ الذي يأخذ بالنَّفَس.
[16] الخلّانِ هما: خديجةٌ زوجة النبيّ الأكرم عليه الصّلاة والسّلام،، وعمّه أبو طالب.
[17] الحزَمُ كالغَصص في الصّدر.
[18] الحُثُم: الطُّرُق.
[19] البُذْم: الرأي الجيّد.
[20] العسَم: يبسٌ في المرفق تعوجُّ من اليد أو القدّم.
[21] الحِلس: الثوب. وفي الحديث: “مَرَرْتُ ليلةَ أُسرِيَ بي بالمَلَأ الأعلى وجبريل كالحِلْسِ البالي من خَشيةِ الله”.
[22] فسطاط القرآن: سورة البقرة.
[23] القَنَم: الفاسد.
[24] الفدم: الأحمق.
[25] الرُّزَم: الثابت الذي لا يبرح مكانه.
[26] اللَّأم: الاتّفاق.
[27] القُحَم: المهالك.
[28] ذوو القَزَم: ذوو القماءة والدناءة واللّؤم والشحّ.
[29] العَكْم: الانتظار.
[30] الخُطُم: الحبالُ التي تُقاد بها البعير.
[31] طسَم: قبيلة بائدة.
[32] الإشارة إلى قوله تعالى: “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ“
[33] الهُشُم: الجبال.
[34] الإشارة إلى فرس سراقة بن مالك الّتي غاصت أقدامها في الرّمال.
[35] الرّخَمُ: نوع من الطّير موصوف بالغدر..
[36] السّلَم: السَّلَف.
[37] الوَصَم: المرض.
[38] الضّجَم: العِوَج.
[39] اللَّذِم: المولَع بالشيء.
[40] الرَّشَمُ: أول ما يظهر من النبت.
[41] القُثُم: الجَموعُ للخير.
[42] الهِزَم: السّحاب المتشقّق بالمطر.
[43] اللُّحَم: القرابات.
[44] بات القوم في زِيَم: أي باتوا متفرّقين.
[45][45] الطَّسم: الظّلام.
[46] اخترمَ: استأصلَ.
[47] الرَّخَم: المودّة والرّحمة.
[48] السّدَم: النّدَم.
[49] اللَّقَم: وسط الطريق أو معظمه.