عبثية قصص الخيال العلمي في أدبنا العربي الحديث

مصطفى سليمان | سوريا

هل أدبنا العربي بحاجة إلى الخيال العلمي؟ هل تعكس قصص الخيال العلمي العربية واقعاً عربياً قائماً…؟ وهل تنبأ العلماء العرب بمبتكرات قد تحرض عقولهم العلمية ليجسدوها إنجازات تقنية مادية ، كما حدث ويحدث في ” بلاد برة” ؟

ليست قصص كتابنا الخياليين العلميين انعكاساً ولا إرهاصاً، إنها تهويمات مثقفين علميين عجزوا عن العلم الحقيقي وعن إبداع الحضارة التقنية، فالتجأوا إلى الخيال.. ولو كان علمياً. نحن مستوردون للتقنية، لسنا منتجين لها، مستهلكون لا مبدعون، فلماذا هذه القصص؟

ولقصص الخيال العلمي جذور أسطورية. ويمكن أن نتذكر هنا أسطورة إيكاروس في التراث الإغريقي، وهي تعكس حلم البشرية منذ آلاف السنين بمحاكاة الطيور في تحليقها في الأجواء وأن يصبح الإنسان طيراً.

إيكاروس طار بجناحين من شمع، وأوغل في طيرانه يدفعه الطموح لاختراق الآفاق، حتى اقترب من الشمس، فذاب الجناحان واحترق إيكاروس. إنه أول شهيد بشري في غزو الفضاء، ورد في العصور الخيالية الأسطورية. وهو شبيه بأول رائد فضاء بشري علمي روسي: “غاغارين”.

ويمكن أن نتلمس شيئاَ من الخيال العلمي في بعض كتب التراث غير الأسطوري، العربي والعالمي؛ وهل بساط الريح في ألف ليلة وليلة سوى خيال تراثي بدائي تطور إلى حلم أسطوري بالطيران: كما في أسطورة إيكاروس، ثم إلى تجربة علمية غير مكتملة عند عباس بن فرناس، فإلى تجارب علمية متكررة حتى النجاح فالتصنيع المتطور المذهل كما بدأ عند الأخوين رايت؟

لقد نشأت قصص الخيال العلمي في أوروبا مترافقة مع الانقلابات الصناعية التي ألهبت خيال الأدباء ثم في أمريكا حيث حدث، ويحدث تفجر معرفي هائل في مجال الأبحاث والمبتكرات العلمية، وتطور مذهل في التقنية، مما فتح أمام العقل البشري أفاقاً فسيحة غريبة من الدهشة، والتأمل الكوني في مصير البشرية.

وكانت هذه القصص انعكاساً لواقع علمي قائم، وتبشيراً وإرهاصا بابتكارات علمية مستوحاة من خيال هذه القصص كما استوحى القصاصون خيالاتهم من واقع العلم، وآفاقه التنبؤية .

ولهذا تستخدم المؤسسات العلمية الكبرى كبار كتاب الخيال العلمي كمستشارين علميين لديها، لإدراكهم قيمة الخيال المبدع في فتح آفاق جديدة أمام العلماء، فكل شيء يبدأ من الحلم المبدع .

لقد أوحى جول فيرن في قصته: من الأرض إلى القمر، بفكرة الصاروخ المتحرر من الجاذبية الأرضية للهبوط على قمر الشعراء والعشاق !كذلك أوحىت قصته: عشرون ألف فرسخ تحت الماء بالغواصة وتنبأ. آرثر كلارك بمهام الأقمار الصناعية قبل ظهورها.

وهناك المئات من القصص والمسرحيات والأشرطة السينمائية عن الإنسان الآلي “الروبوت” وغزو الفضاء والحرب الذرية المقبلة، أو المحتملة دائماً.. وكل هذا يأتي انعكاساً لواقع قائم وإرهاصاً أو تنبؤا بآتٍ محتمل.

” إسحاق ازيموف” في أميركا عملاق هذا الميدان. فقد قدم ما يقارب الأربعمئة قصة، وهو دكتور أيضاً في الكيمياء ، وكان يتابع في قصصه أحدث النظريات والمبتكرات العلمية ، من ” الروبوت” إلى حرب النجوم .. فلم يكن يمارس الشطحات الخيالية من فراغ.

فماذا عن أدبنا العربي الحديث؟

قصص الخيال العلمي المترجم نادرة في أدبنا العربي الحديث، كما عهدناها عند أقطابها الرواد الغربيين ، أمثال “جول فيرن” ومن رواياته الشهيرة : رحلة إلى القمر، وعشرون ألف فرسخ تحت الماء. و هناك روبرت لويس ستيفينسون في: دكتور جيكل ومستر هايد. وهناك أيضاً هربرت جورج ويلز، ومن رواياته ” آلة الزمن”… وكل هذه الروايات جُسدت على الشاشة البيضاء.

ومن رواد طلائع قصص الخيال العلمي في أدبنا الحديث توفيق الحكيم، فقد حاول أن يرتاد الخيال العلمي مبكراً فكتب ” رحلة إلى الغد ” و” سنة مليون “.. لكنه أدرك أنه ينفخ في قربة مقطوعة لأن المجتمع المتخلف علمياً المستورد للتقنية غيرالمنتج لها لا تناسبه أمثال تلك الأعمال الأدبية العلمية المتقدة ، لذلك التفت إلى الواقع فأبدع..

وقد استلهم توفيق الحكيم من القرآن الكريم قصة أهل الكهف فرأى فيها بُعداً خيالياً علمياً، يستند إلى فلسفة الزمن والنظرية النسبية، فالزمن داخل الكهف كان غير الزمن خارجه. إلى جانب الأبعاد الحضارية والاجتماعية التي طرحها في مسرحيته : أهل الكهف.

وحاول الدكتور مصطفى محمود خوض هذا العالم المدهش – وهو رجل علم أصلاً كما في: العنكبوت،

و رجل تحت الصفر. وهناك نهاد شريف في مصر، ويقابله أو يوازيه في الزخم الإبداعي في هذا المجال طالب عمران في سوريا .

وفي الكويت ، شقّت المرأة طريقها الخاص في هذا المجال الصعب ، وبرزت “طيبة أحمد الإبراهيم” كأول امرأة في الأدب العربي الحديث -حسب علمنا- وربما كانت الوحيدة في خوض هذا المجال كما في قصصها: الإنسان الباهت, والإنسان المتعدد. وانقراض الرجل.

فما غاية جميع هؤلاء الكتاب العرب، ممن ذكرنا أو لم نذكر، من كتابة قصص الخيال العلمي ؟

قد يهدف أمثال هؤلاء الكتاب إلى تبسيط العلوم ، أو ترويجها أو التحريض على الإقبال على العلوم .. أو محاكاة القصص المترجمة في هذا المجال، أو ربما لإرضاء نوازع ذاتية لديهم.

إن قصص الخيال العلمي في أدبنا العربي الحديث إسقاط خيالي أو وهمي لواقع علمي مستوردعلى واقع عربي متخلف، نسميه – تجاوزاً – ناميًا أو ثالثاً ..

كلنا يعلم أن آلاف العلماء العرب في مختلف المجالات العلمية يهاجرون ، أو يُهجَّرون لعدم قدرة المجتمع العربي، وربما لعدم رغبته في استيعاب عبقرياتهم. ربما تكون هناك أسباب سياسية، أو بيروقراطية، أو علمية أو اقتصادية ..

ترى لو بقي – على سبيل المثال الدكتور فاروق الباز العالم الجيولوجي الفضائي المصري الذي يعمل في وكالة “ناسا” الأميركية في مجتمعه المصري- هل كان كما هو كائن اليوم؟ ولو قرأ ونشر مئات القصص العلمية الخيالية في مجتمعه، وفي أمته، فهل كانت رواياته ستخلق منه ذلك العالم الكبيرالآن ؟ وهل كان مجتمعه استوعبه؟

في عدد 12 نوفمبر- تشرين الثاني 1992، نشرت مجلة صباح الخير المصرية ندوة علمية خطيرة بعنوان ( إنه البؤس العلمي) وجرت الندوة مع علماء ودكاترة جامعات في مجالات مختلفة .

من ذلك البؤس العلمي مايرويه الدكتور محمد حسين فهمي أن إحدى رسائل الماجستير والتي قدمها أحد طلابه كانت حول جيولوجية الفيُّوم. وقد تنبأ فيها الطالب – الباحث بإمكانية حدوث زلزال ضخم، وأكد أن شمال بحيرة قارون، وخاصة منطقة جبل قطراني، ستكون مركزاً لهذا الزلزال. وهذا ما حدث فعلاً !؟

وتساءل د. محمد حسين : هل اهتم أحد بهذه الرسالة أو غيرها ؟

هناك بيروقراطية عربية رسمية جاهلة، أو متجاهلة، لقيمة البحث العلمي، واستثماره في المجالات التطبيقية، فكيف بقصص الخيال العلمي في أمة تحبو على هامش العلم ؟..

لذلك كان ناشرو كتب نهاد شريف يرجونه حذف عبارة : (من قصص الخيال العلمي) على الغلاف، حتى لا تصاب بالكساد،، لأن الناشر هو أولاً تاجر وابن سوق يعرف مايروج، ومايكسد. فالثقافة عنده تجارة.

على كُتّاب قصص الخيال العلمي في أدبنا الحديث أن ينشروا كتبهم في المجتمعات العلمية خارج أوطانهم حتى تلقى القبول، هذا إذا استطاعوا مواكبة التطور المذهل والمعقد هناك، أو استطاعوا منافسة عمالقة كتاب قصص الخيال العلمي، أو سبْقَهم؛ لأن أهم محور في روايات الخيال العلمي “النبوءة العلمية فكاتب الخيال العلمي هو جاسوس المستقبل.

والأجدى لكُتابنا أن ينشروا المقالات العلمية المبسطة، كما كان يفعل المرحوم الدكتور أحمد زكي -رئيس تحرير مجلة العربي الأسبق – أو المرحوم الدكتور عبد المحسن صالح.

مجتمعنا العربي ليس مجتمع علم، ولامجتمع نظريات علمية كونية معقدة تطرح من خلال إنجازاتها التقنية أزماتٍ فلسفية كبرى ضمن مجال العلوم لتستدعي ذلك النمط من الخيال العلمي. فهل نعتقد أننا بذلك ندخل “عالمية الأدب” ؟

العالمية فرع من فروع المحلية. إن رصد نبض الحياة الشعبية بصدق فني ونفسي مثير للدهشة والغرابة.. هو باب عريض يقود الأديب إلى مملكة العالمية. وهذا هو نجيب محفوظ خير شاهد على دخول عالمية الأدب من بوابة المحلية.

ما الذي جعل “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح . و”الأيام “لطه حسين ، و”يوميات نائب في الأرياف ” لتوفيق الحكيم ، وروايات نجيب محفوظ ، وحنا مينة ، والطاهر بن جلون ، بل حتى “ألف ليلة وليلة ” تقتحم عالمية الأدب ؟! السر هو ( المحلية ) بكل أبعادها ونكهتها الخاصة .

علينا أن ندخل عالمية الأدب من البوابة المحلية بكل مظاهرها التي قد نراها ساذجة، أو تافهة، أو معيبة.

بين أيدي كتابنا الواقع العربي الغريب العجيب المدهش في تضاريسه الاجتماعية والسياسية والنفسية والدينية… إنه أغرب من ألغاز الفضاء ومجراته، وأعجب من حرب النجوم و” الروبوت”.

فليستمد كُتابنا إبداعاتهم من وحي هذا الواقع لامن وحي الخيال العلمي المستورد. وإلا سيظل هذا الأدب قبض الريح. وسوف تبقى قصص الفضاء الكوني العربية في مرحلة انعدام الوزن، تدور في فلك وهمي ..!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى