نهاية الكون وإعادة الخلق

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

كما يماري المبطلون في قضية بدء الخلق رغم تضافر الدلائل الصارخة البادية في الكون والكتاب، وما أثبته العلم بأدلتة القاطعة المعضدة والمؤيدة لما جاء فيهما، فإنهم كذلك ليمارون في قضية إعادة الخلق بعد نهاية الكون، وفي فكرة البعث بعد الموت، بعد مفارقة الأرواح للأجساد، ثم قيام الأرواح في الأجساد بعد الرفات والعظام “وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)!! [الإسراء].

وهم يطرحون هذا الطرح الاعتراضي الوارد في الآية على سبيل أنه يتنافى مع منطق العقل الطبيعي، ويسقطون بالقياس ما يحدث في عالم الغيب على عالم الشهادة، ويحتجون بالعقل الذي أنكروا دلائله في قضية (البدء)، فيحكمونه أحيانا ويغفلونه أحيانا، وما ذلك إلا اتباع الهوى وإزهاق لمنطق العقل الذي يدعونه.. ورغم هذا المراء اللامنتهي فإن القرآن لا يآل أن يرد عليهم في هذه القضية ويحاججهم بما يدعون، ويقيم عليهم الحجة البالغة، كما يدحض حجتهم الزاهقة، ثم “يذرهم في طغيانهم يعمهون”. 

وحين يولى لهذه القضية (إعادة الخلق) هذا الاهتمام مع الإيعاز والتعويل على الأدلة العقلية في جدلية المعاندين، فإنه يجعلها مدعومة بالأدلة النصية لتثبيت المؤمنين الموقنين، وإزهاق المنكرين، ثم لا يجدوا لأنفسهم ملجأ ولا منجى حتى ولو صموا آذانهم واستغشوا ثيابهم.

وهذه القضية مقترنة بما قبلها (بدء الخلق) في آيات القرآن، حيث أن القضية تكاد تكون واحدة لا تنفك الأولى عن الثانية أو الثانية عن الأولى، فالمنكرون للبدء هم حتما منكرون للمعاد، لأن المنكر للبدء هو مؤمن إما بأزلية الكون وبالتالي أبديته، وهذا محض إنكار للمعاد والبعث والنشور والحساب، وديانة يوم الدين بين يدي رب العالمين؛ وإما مؤمنون بنظرية الصدفة والطبيعة في الخلق وبالتالي فهو أيضا تبرأ محض مما سبق ذكره من الحساب والبعث والنشور.

وهذا تبرأ من تبعات ما بين المرحلتين (البدء والإعادة) من حكمة الله تعالى في إيجاد الخلق، وتكريم الإنسان بالعقل خاصة، ثم جعله في مناط التكليف بين الأمر والنهي، وقد أشهده على نفسه فيما قبل الخلق بإقرار الربوبية وتوحيد الفطرة، ثم تكرم عليه بأن جعل له هذا الوجود، وهذا التشريف بين الكائنات وقد ألهم مع العقل سبيل النجدين (الفجور والتقوى)، فما إن يجنح إلى هذا الإنكار الأخروي فإنه يتنصل من كل تكليف وتشريف خصه الله به، وافترضه عليه بما ميزه به عن خلقه من حمل الأمانة، والاستخلاف في الكون ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)”[الأحزاب]، وهذا هو قوله “ثم رددناه أسفل سافلين”.

وإما يقوم بالأمانة ويؤدي حقها، ويقر لربه بما أشهده عليه به قبل خلقه، ثم يعمل ما يقر بعبوديته فيكون في هذا التشريف الذي جعله الله له (أحسن تقويم) ، فيرقى بهذا التسامي على هوى النفس وإحكام العقل لما هو فوق درجة الملائكة.

وهو أيضا محض اتهام للخالق (جل وعلا) بعدم العدل؛ حيث ما يرى من هذا الجور للناس بعضهم على بعض، وهذا الشر المستشري الذي لم يأمر الله به، وهذا الانحراف الأخلاقي والعقدي عما أمر الله به، وهذا الفساد الذي تكاد السموات والأرض أن تزول منه، وهذا الجور الذي استطال به ابن آدم على ربه وعلى خلقه..  فإن في سنة الإمهال والإرجاء للبشر لحكمة أن يستعيدوا رشدهم، ويثوبوا تائبين إلى ربهم، ويصلحوا ما تضعضع من أمر رشدهم وفطرتهم السوية، وما أفسدوا في الكون وأهلكوا من الحرث والنسل.

وكما ذكر القرآن: “قل كل يعمل على شاكلته”، فإن منكروا العصور الحاضرة هم على شاكلة أقرانهم من منكري العصور الغابرة، لا يحيدون عن سننهم قيد شعرة، بل حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم.. ربما تختلق الحجج وتختلف، وربما يستحدث المنطق، لكن في النهاية نخلص مستيقنين أن “الباطل ملة واحدة وإن تعدد”، وأن الحق واحد وإن اختلفت صوره وأدلته.

ثم يأتي المبطلون المنكرون لينكروا هذ المعاد، وما سماه الله ب(يوم التغابن) وهواليوم الذي آل الله على نفسه ألا تظلم نفس شيئا ، وأن ترد الحقوق إلى أصحابها “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)”[الأنبياء]، فالإنكار هنا هو صريح ادعاء بالظلم على الله (تعالى الله عن ذلك) حيث لا توفى النفوس ما كسبت، ولا ترد المظالم إلى أهلها.

ثم هو اتهام للحكمة الربانية بالقصور أو العبث، إن لم يكن من هذا الخلق العظيم غرض، وألا يكون لهم إلى ربهم مرجع أو مآل، فيرد القرآن عليهم ردا مبهت لما يدعون “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)”[المؤمنون]، وهو منتهى الوعيد للمنكرين والمقصرين، بل يثبت لهم ما هو أبسط من ذلك، ألا هو حشر البهائم والدواب والوحوش، مع الإنس والجن جميعها ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)” [الأنعام]، ” وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)”[التكوير]. 

ولذا كان التأكيد على قضية إعادة الخلق والإيمان بالبعث  هو من صميم الإيمان وأركانه كما جاء في حديث جبريل (عليه السلام) عن عبدالله بن عمر” قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» (صحيح مسلم)،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى