حسرة على القريض..

حسرة على القريض…

ربما كنت مولعا بشعر المعلقات، حين لامست أسماعَنا في وقت مبكر من صبانا

وحين دار فينا الزمان دورته ،خلصنا إلى معانيها نحفظها، ونحرزها، ونستظهرها.. 

وحقا … أدهشتني العقلية الشعرية القديمة في تراكيبها النافذة وامتزاجها بما حولها في غير تكلف أو إسراف او تعسف أو مخاتلة .. 

وجاءت صورهم البسيطة بعمق تناولها؛ لتعبر عن العفوية الرائعة الموشاة بالحرف الوثير، الذي انْتُقيَ بعناية بالغة، ثم أُودعَ قالبه الذي لا يكاد يتسع الا له.. 

 

كما أن بساطة الحياة وقتئذ، وندرة مقتنياتها في ذلك العصر، قد جعلت الشعر   منسابا، متخففا، منطلقا غير عابئ بأي ارض يجوز؛ في الشعاب والوديان، وبين الصخور، والجنادل، وأفواه السكك، وعند الطلول الدوارس، وفوق الكثيب، ونحو بطن خِبت ذي حقاف عقنقل، ووسط الخيام وحولها النؤي بالمظلومة الجلد. وعند تنكب القوس والرمح واعتلاء صهوة الخيل، وفي عرصات الأحبة الآفلين،و حول كل جيد مدلمج، وعود مهتصر نضر.. 

 

كما حلق بالأرواح إلى سامق .. وعالج الجوارح على سَنن ، ورصد حركاتها، ونوازعها في بطشها، وصلادتها، وليونتها، وداعب الأحاسيس بمشاعر  فياضة ورِقّةٍ مسترخية ، في غير غفلة من ذوق أو حياء… فكانت لهذا الشعر نكهته الطازجة.. وذروته المشمخرة.. 

ومازال الأوائل، – من لدن ساقيهم المسرف، الذي خسف لهم عين الشعر؛ وخط لهم في الروح أخاديده- مازالوا يسقون الناس من معين رائق ثَرّ، شُجّت مُدامتُه من ماء محنية ضاح بأبطح أضحى وهو مشمول، ويُنهلون كل من تابع الخطوَ على دربهم، واغترز بغرزهم، ممن أتوا على إثرهم، و التزموا جادتهم، وتوافروا على طريقتهم.. 

 

..حتى كان عصر بني العباس ، حيث رياض الشعر قد استوت نبتتها على سوق الجمال، وعبقت جنباتها بالأزاهير من كل لون، فعصف الأريج، ودنا القِطاف، ولذّ المطعم .. ثم تناثر فتانه في بقاع متفرقة، 

تلاقى، وأحيانا تَبِين كأنها … بنائِقَ غِر في قميصٍ مُقَددِ

تتلاقى  في عطرها الأخاذ، وعصفها الشميم، ثم… انحسرت روعة الشعر، وتلاشت فتنته، وخفَّ بريقُه، وجَفّ ريقه، فلم يعد الا كَوَشْلٍ زاوٍ يَتَبرّض الناس ماءه  تَبَرُّضا، لقلته وبُعد غَوْره.. 

 

ثم خلفت من بعد ذلك خلوف خاطئة كاذبة ، رَكَبتْ شططا. وجمعت حطبا، فحادوا عن كل سبيل  وتماروا في كل دليل، وأشعلوا النار في كل حَضَرٍ وَمَدَرٍ، وحرّفو كَلِم الجمال عن وجه الحسن، ثم لم يزالوا يسدرون في البُعد غَيّاً، حتى أطفَلُوا وأفْرَخُوا، و اغتصب -عنوة- رايةَ الشعر غلمانُ أشأم، فهوى بهم، وهَوَوا به في قرارات الحداثة السحيقة وما بعدها .. 

وبات الشعر برهابته ومهابته مسخا مُبْتَسرا، وأصبح على أيديهم الكليلة الذليلة؛ مخلوقا شائها؛ لا ينتمي إلى ذوق، ولا ينتسب إلى عرق. وآل أمره إلى تهاويم فارغة، وغمغمة بليدة، خالية من كل جمال، وبيان، وعُرف.. 

 

….

لا أدعي الشعر رغم انني قد دارسته طويلا وحفظت منه الشيئ الكثير ..

فقط أكتفي بحجز مقعدي بين المتذوقين النابهين ..وحين يستفزني معنى جميل أو شعور مُوخز ؛ قد ألهث في مسارب القريض، يوما أو بعض يوم؛ لأصنع  البيت والبيتين والثلاثة ، فإن زاد عن ذلك فنادر ..

 

وقد قطعت طمعي منذ زمن طويل عن غشيانه والتلبس به .. ذلك لأنني متذوق شَرِهٌ؛ أعرف قدر شعري، ولا أرضى أن ينزل في أعين الناس غير منزلته في عيني …

كما تأبى عليّ امانة التذوق أن  أكون مكثارا مهزارا؛ أنظم الدّر  والبعر في سلك واحد ..

 

..

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى