العقل بين أمانة التكليف والفطرة الأولى

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

مما يجلي صور التكريم الإلهي لهذا العقل البشري أن جعله (شرطا للتكليف)، ومناطا له، فيسقط التكليف (كله أو بعضه)حين غياب العقل (كليا أو جزئيا)؛ مع الإيعاز إليه بهذا الفهم عن الله، وتلقي شرعه، والاستقبال عن رسله، والقيام بأداء أمره كما أمر، وتبليغه إلى سائر خلقه ؛ مع خلعة الاستخلاف الأولى التي خص بها هذا العقل “إني جاعل في الأرض خليفة “.. ولذا فقد جاء في سنن الدارمي وابن ماجة وغيرهما “عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ المُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ “
لقد كان ذلك إعلانا عن درجة من الخصوصية التكريمية الإلهية التي ألبسها هذا العقل والمنزلة التي أنزلها، فجعلته سيدا وحاكما وخليفة، ثم مسئولا عما يفعل، وعما تكسب جوارحه من خير أو شر، وعما تغوي نفسه أو تهوي ، أو تهتدي.. فهو القيم عليها والمبصّر لها بفطرته السوية ، وشرعته التي علمها وأنيط بحفظها وحمل النفس على أداء أمانتها “بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره”. (القيامة).
كما يقول الحارث المحاسبي (ت 243 هـ): “فالعقل غريزة، جعلها الله في الممتحنين من عباده؛ أقام به على البالغين للحلم الحجة، وأنه خاطبهم من جهة عقولهم، ووعد، وتوعد، وأمر، ونهى، وحض، وندب”.
ومما اصطلح على صحته واتفق على بديهيته في شرائع السماء وأعراف الأرض ، أن كل تشريف لابد أن يصحبه تكليف، وكل تكريم لابد له من حمالة يتحملها؛ ولم يشرف هذا العقل بكل هذا الشرف المنوط المذكور سابقا، إلا ليقوم أيضا بهذه الأمانة فيؤديها كما أمر، أو قدر ما يستطيع الأداء غير آل أو مقصر، ثم هو محاسب مع نفسه عن التقصير والإضاعة، وعن الأداء كيف أدى وكيف أغفل؟!
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ يَا آدَمُ إِنِّي عَرَضْتُ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ تُطِقْهَا فَهَلْ أَنْتَ حَامِلُهَا بِمَا فِيهَا فَقَالَ: وَمَا فِيهَا يَا رَبِّ ؟ قَالَ: إِنْ حَمَلْتَهَا أُجِرْتَ وَإِنْ ضَيَّعْتَهَا عُذِّبْتَ .. فَاحْتَمَلَهَا بِمَا فِيهَا فَلَمْ يَلْبَثْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْرَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْأُولَى إِلَى الْعَصْرِ حَتَّى أَخْرَجَهُ الشَّيْطَانُ مِنْهَا، فَالْأَمَانَةُ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ .(1)
واقتضاء التكليف لوجود العقل بديهة لا تمارى، ودلالة على أمرين:
الأمر الأول: أن الله تعالى لا يكلف العقل إلا ما يطيق فهمه ومعرفته عن ربه، وكذا ما يطيق القيام بعمله، والفهم هنا هو الإدراك عن الله تعالى في أمره ونهيه، وليس شرطا إدراك الغرض من التكليف وما وراءه من الحكمة الربانية، وهذا الفهم هو الذي يجد فيه العبد توافقا وتطابقا بين سلاسة التكليف ويسره، وبين الفطرة الأولى.. فلا يعترضان ولا يصطدمان ولا يغالب التكليف سنن الفطرة، إلا هوى النفس وما طبعت عليه من الفجور، كما يوافق كذلك ما جبلت عليه من التقى والخلق الزكي.
ولا يتعارض هذا الفهم عن الله مع قول الإمام علي رضي” “لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه”(2).

لأن العقل هنا حكم على مصدرية الشرع ودرجة صحتها وليس على الشرع ذاته، كما يستطيع أن يستبين هذا الفارق الجلي بين ما تقتضيه حكمة التشريع الرباني، وما يهرف به العقل البشري لنفسه فيخطئ أو يصيب.
لقد أسرفت التشريعات الإنسانية الأرضية على نفوسها حين افتاتت على سننن ربها وما أنزل من الوحي، وحبرت بأيديها ما أقض فطرتها واصطرع مع نفوسها فلم تطقه، وكذا العقل البشري حين أقحم نفسه فيما شرع الله له ، ففرض على نفسه مالم يشرعه الله ويكتبه، فما اسطاعت النفوس رياضته، ولم ترعه حق رعايته”ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها” (الحديد). كما جعلت مما سطرت تعاليمها وما فرضت على أصحابها من رياضات روحية ونفسية وتعاليم لم يقم بها أهلوها، إذ لم تؤهل هذه الفطر للتوافق معها، فجنحوا وأسرفوا وغيروا وبدلوا، ولم تلقهم بعدهم إلا على رؤوس الجبال أو الكهوف أو بقايا في الصوامع معزولون عن مفاعلة الحياة، وبناء الحضارة، وقد حرموا على نفوسهم وأتباعهم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.
وإذا كان لا يخرج التكليف عن نطاق طاقة النفس البشرية الجسدية التي طبعت عليها، أو ما طرأ عليها من طارئ مرض أو نقص في العقل أو الجسد، فإنه يدور مع دائرة نطاق الجسد والنفس كيفما دارت، فيسقط بعضه أو كله زمنا أو مع امتداد العمر حسب امتداد العذر هل لمرض أو سفر مؤقت أو دائم، أو عجز مؤقت أو دائم، كمثل ما يرخص في قصر المسافر وفطر الصائم في السفر والمرض، وسقوط الحج عن غير المستطيع، وما خصص للمرأة من تشريع يوافق طبيعتها البيولوجية والنفسية التي خلقت بها.
وأما الأمر الثاني: أن جعل الشرع العقل منوطا باستنباط فقه مالم يُحكِم الشرع وروده، وهو المتشابه أو (المختلف في فهمه)، وذلك أن الله لم يجعل من الإنسان كائنا مصمتا معجما ليس له من الأمر إلا ما يتلقى ويؤمر فيأتمر، لكنه ترك له الاجتهاد في تقعيد قواعد الفهم والاستدلال عن طريق أدلة فقهيه مستندة على العقل وما يفهمه من النقل؛ مع اعتبار أن ليس كل ما ورد من النقل يؤخذ على ظاهره، ولكن منه ما يحتاج إلى عمق الفهم واستخلاص الأحكام من أهل التخصص والفن”ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ” (النساء).
مع مراعاة المصالح المرسلة والترجيح بين الأدلة والأسانيد، واستبيان حال الزمان والمكان، ومراعاة ما يوافق طبيعة التباين النفسي البشري فيأخذ كل ما تيسر له، شريطة أن يكون كل ذلك في قالب المشروع والأصول والمبادئ الكلية التي حدها الحق، وبينتها الشريعة.
إن التكليف يؤصل ويؤسس لصحبة العقل مع النقل، فلا يتبين فهم النقل إلا عن طريق العقل، كما يهتدي العقل إلا بما ورد من النقل، كما قال (الغزالي) : أن” العقل كالعين، والنقل كالشمس.. فلا تستبين الشمس إذا كان في العين مرض أو رمد [قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم]، ولا ترى العين إذا امتنع ضوء الشمس”. (3)
°°°
مراجع هذه المقالة:
1 تفسير القرطبي
2 رواه أبو داوود وصححه الألباني
3 (الغزالي) مشكاة الأنوار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى