بين التخصصية والموسوعية.. ضرورة الدراسات البينية في عصر التخصصات المنعزلة

أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه أكاديمي مصري

يكتفي معظم الباحثين بالبحث والتبحر في تخصصاتهم بمعزل عن غيرها من المجالات البحثية التي يرونها مفارقة لما يدرسون وبعيدة عما يبحثون، ويسعى أعضاء هيئة التدريس بالجامعات في بلادنا للتنقل على خط مستقيم لا ينحني ولا ينثني يبدأ بالماجيستير مرورا بالدكتوراة وأبحاث الترقية للأستاذ مساعد ووصولا بأبحاث الأستاذية وما بعدها في نفس التخصص ونفس القسم بل في نفس مجال الدراسة ومساقها داخل القسم. فمن كان تخصصه الشعر -مثلا- لن تجد له دراسات سوى في الشعر، ومن كانت صنعته المناهج لن يقرب غيرها من التخصصات حتى التربوية منها.

وقد يتفرع الباحث قليلا ليشكل عدة أبحاث تغطى مجالات الدراسة بقسمه ليكون بذلك الأستاذ الكشكول الذي جرب كل مجال وخبر كل موضوع داخل التخصص. وهذا كله لا يصنع الابداع طالما ظل داخل حدود التخصص، حسب آخر الكتب في علم النفس (كتاب  Range  الذي عرضه أستاذنا الدكتور أسامه إبراهيم أستاذ علم النفس التربوي مؤخرا) فالكاتب يرى أن من يأخذ من كل علم بطرف، ومن يطلع على المجالات الأخرى خارج التخصص قد يغلب ويفوق المتخصص الذي انكفأ على تخصصه لا يعلم سواه. ويناقش فيه المؤلف قدرة أصحاب المعارف العامة على هزيمة المتخصصين أحيانا؛ فحسب الكتاب يؤدي التوسع في الاطلاع على المجالات المختلفة إلى اختلاف المنظور للتخصص، بما يظهر أبعادا جديدة له تنير جوانب غامضة وتحل إشكالات قديمة.

وقديما كان العلماء موسوعيين؛ يعرفون الأدب والفقه والتاريخ والكيمياء والرياضيات والطب وغير ذلك، كان ابن سينا مثلا طبيا فيلسوفا، وكان جابر بن حيان كيميائيا صوفيا، وكثير من الفقهاءكانوا يعملون بالطب والفلك والرياضيات، لكن الزمان قد تغير والتخصصات قد تضخمت والمعارف قد انفجرت، فهل يعني هذا انحسار الموسوعية وانتهاء عصرها؟

لا أظن ذلك، ولكن أرى للموسوعية معنى جديدا يناسب العصر وهو أن يجمع الأستاذ بين تخصصين أو أكثر ويتعمق فيها جميعا مع الاطلاع على غيرها من التخصصات خارج قسمه بل خارج كليته، ويكتب ويبحث في كل هذه التخصصات بقدر ما يستطيع، وفي الغالب ستكون دراساته بينية مبدعة تنظر بمنظور جديد وترى ما لا يراه المتخصصون الإنكفائيون، الذين يظنون أن الدراسات البينية تعوق التخصص وتجعل حدوده مميعة.  

ولنا في العلماء الأفذاذ مثالا وعبرة؛ فنعوم تشموسكي مثلا بدأ حياته العلمية عالما بالرياضيات، ثم من قراءاته في اللغات شغف بها، فتحول إلى دراسات علم اللغة وأفادته الرياضيات في وضع واحدة من أكبر نظريات النحو التحويلي التوليدي مازال الناس ينهلون منها حتى اليوم، ولم يكتف بذلك، بل تحول إلى دراسات العلوم السياسية وحقوق الأقليات في آخر عقد من الزمان فصار حجة في التحليلات السياسية والاستراتيجية وما ذلك سوى أنه أفاد من رحلته عبر التخصصية فرفدت كل من العلوم التي مر بها. والمرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري جمع إلى تخصصه في الأدب الإنجليزي ريادته للدراسات حول اليهودية والصهيونية، والدكتور محمد عناني جمع إلى تخصصه بالشعر الإنجليزي وولعه بالأدب العربي دراساته في المسرح والترجمة ونظرياتها بما لم يكتب مثله قبله، والمرحومة الدكتورة رضوى عاشور عرفت برواياتها العربية أكثر من أبحاثها في الأدب الإنجليزي، وعلى المستوى المحلي – في الصعيد المنسي- لا أنسي ثلاثة أساتذة كان لهم في حياتي أعظم الأثر.

أولهم الأستاذ الدكتور مصطفى رجب العميد الأسبق لكلية التربية بسوهاج، فقد جمع إلى تخصصه العميق في أصول التربية وفلسفتها، ريادته للتربية الإسلامية والفكر التربوي، ودراساته العميقة في علم اللغة -التي حصل فيها على دكتوراة ثانية من كلية الآداب-، ودراساته في الفقه والتفسير، بالإضافة إلى إبداعه المتألق في الشعر الشعبي – الذي عرف باسم الحلمنتشي حتى صار علما عليه، فجاءت دراساته تثري تخصصه الأصلي في أصول التربية بما لا يفعله غيره.

ومنهم العميد الأسبق الآخر المرحوم الدكتور أحمد عبد المطلب الذي شارك الدكتور مصطفى رجب في تخصصه في أصول التربية، لكنه أنطلق منها إلى دراسة القانون، وانتسب إلى كلية الحقوق حتى أنهي الليسانس والماجيستير والدكتوراة، وجاءت أبحاثه في الوعي التربوي القانوني والحقوقي لا مثيل لها. ومنهم الأستاذ الدكتور بهاء مزيد العميد السابق لكلية اللغات والترجمة الذي تخصص في علم اللغة ودراسات الخطاب، لكن شغفه القديم بالأدب العربي والنقد والشعر لم ينفك يظهر في دراساته وعلمه وفي محاضراته الثرية، ثم أضاف لذلك محبةً لعلوم التربية فانتسب للجامعة الأمريكية يدرس مناهج اللغة الإنجليزية وطرائق تدريسها وحصل فيها على درجة رفيعة، أفادت أبحاثه اللغوية التطبيقية وحياته العملية في المحاضرات وعروض المؤتمرات.

هؤلاء يمثلون ثلاثة أمثلة عاصرتهم طالبا وباحثا في جامعة إقليمية لا يكاد يُلتفت إليها، لكنها تحوي من الابداع الكثير.  ولست أقارن نفسي بهؤلاء العظماء، ولكني بليت بحب الاطلاع خارج تخصصي، فتتبعت شغفي بالقراءة والبحث وتجربة إجراء الدراسات في الأدب والتاريخ والفلسفة والأديان والآثار وعلم اللغة والترجمة، وكلها لا تدخل ضمن تخصصي في التربية والمناهج. وأشهد الله أنها أثرت معرفتي بالتخصص وفهمي له ونظرتي إليه وتقييمي لمسائل كثيرة كانت عالقة فيه خصوصا في تاريخ تعليم اللغات وفلسفة إعداد المعلم.

وفي هذا إجابة على سؤال: هل الدراسات البينية تعوق التخصص أم تثريه؟ ففي الحقيقة وجدت أنها تثريه وتفتح له أفاقا جديدة لم تكن في الحسبان. وهذا يجرنا للحديث عن برامج الدراسات العليا في مصر؛ حيث ينهي الطالب دراسة التمهيدي -وهي في الغالب مذكرات مكررة من البكالوريوس- فينحصر في اختيار نقطة واحدة للبحث لا يقرأ إلا فيها ولا يبحث إلا عنها، حتى إذا ما حصل الماجيستير انطلق في موضوع قريب فكانت الدكتوراة مرآة لما حدث في الماجيستير بل أسهل وطئا بعدما خبر المصادر والوسائل، دون تجديد ولا مغامرة.

 في المقابل- فقد رأيت برامج الدراسات العليا في الغرب، تعرض الطالب لمجموعة كبيرة من المقررات العميقة، وتطلب منه القراءات الكثيرة الأسبوعية، والتلخيص والعرض النقدي الأسبوعي ثم العروض التقديمية المتوالية وأخيرا ورقة بحثية تصلح للنشر في كل مقرر. وبذلك يكون الطالب قد تعامل مع كل جانب من جوانب تخصصات القسم وأعمل يده في الكتابة العلمية النقدية بها، يضاف إلى ذلك حرية الطالب في اختيار عدد من المقررات الاختيارية المفتوحة التي يمكنه اختيارها ليس فقط من داخل القسم أو الكلية بل من داخل الجامعة أو جامعات المدينة، وبذلك يطلع الطالب خارج مجال التخصص على علوم جديدة وأطر مختلفة، فتتكون لديه الرؤى المبدعة، وعندما يحين وقت اختيار الموضوع يأتي مميزا فريدا جديدا يضيف للتخصصين وللباحث وللمشرفين وللجامعة.

بل إن الكثير من الجامعات الغربية تشجع الباحثين على الحصول على تخصصات مزدوجة  double majors  يدرس فيها الطالب في قسمين بل كليتين مختلفتين، وبعض برامج الدراسات العليا لا تعترض -بل تشجع – الطالب إذا أراد أن يضم المزيد من التخصصات بشرط قدرته على القيام بأعبائها. وحتى على المستوى ما قبل الجامعي، فإن التوجه الجديد هو نحو تكامل العلوم فيما صار يعرف ب STEM حيث تتكامل العلوم والرياضيات والتكنولوجيا والهندسة، ثم توسعت لتضم  STEAM  بإضافة مكون الفنون والآدب فهي المكونات الكفيلة بكسر القواعد الجامدة والخروج عن المألوف والتجرؤ على اقتحام آفاق لم يكن أهل العلوم الطبيعية ليفكروا بإمكانية العمل بها. ثم توسعت مرة أخري لتصير  STREAM بإضافة القراءات المفتوحة في كل المجالات بلا حدود، وهذه هي الموسوعية الجديدة.

وأخيرا، عسى يدرك القائمون على تطوير برامج الدراسات العليا أهمية التوسع في المقررات الاختيارية والتشجيع على التخصصات المزدوجة والاضافية، وعسى يدرك القائمون على الترقيات أهمية استقدام دماء جديدة من تخصصات بعيدة إلى جسد التخصص الأصلي قبل أن يجمد وينقل إلى المتحف.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الابداع حقا لا يكون إلي علي حدود الثقافات المختلفة. من غاص في تخصص واحد طبلة حياتة وبعد عن كل شئ آخر غير تخصصه فقد تسع وتسعون بالمائة بل وأكثر من علوم البشر، اقترب من أن يكون حجرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى