حول نظرية التَّذكُّر

 د. خضر محجز | فلسطين

 

حين نقارن بين الأشياء، فإنما نبحث عن وجوه التشابه، ووجوه الاختلاف. ولا نبحث عن شيء آخر لا نعرفه. فنحن لا نستطيع معرفة شيء، إلا إذا قسناه على شيء مقارب. فمثلاً: الطفل لا يعرف الحرارة، إن لم يقارنها بحرق إبريق الشاي ليده، في المرة أولى.

حسناً، فلنتقدم خطوة أخرى:

حين يحرق إبريق الشاي الساخن يد الطفل، ثم يتعرض لتجربة الحرارة في مرة أخرى، فيقيسها على التجربة الأولى، فإنه يجعل مقارنته مقيسةً بالأعلى والأدنى. أي أنه سيقول: هذا أشد حرارة، أو هذا أدنى حرارة، أو هذا مشابه في حرارته لما كان أول مرة.

فلو سألناه حين يكبر: هل هو مشابه في حرارته بنفس القوة تماماً، أم أنه مقارب له قريباً؟

لأجاب: بأنه مقارب له جداً.

ولو قال: مقارب تماماً، لكان قال قولا لا يعرف حقيقته؛ إذ هو لا يستطيع قياس الألم الناتج عن الحرارة بمقياس دقيق.

فهبه صنع أداة قياس دقيقة، فهل يستطيع أن يثق بأنها ستقيس التساوي بين الشبيهين بنسبة 100% أم أنها ستقيس ما يرى أنها مساوية لهذه النسبة؟

بمعنى آخر: هل يمتلك معرفة سابقة بماهية التساوي؟

هل منحته تجربة الحرق الأولى معرفة بما هو التساوي، أم أنها معرفة مستنتجة متأخرة مصدرها الحس؟

لا شك أنها معرفة مستنتجة متأخرة.

فإذن يوجد في داخله صورة غامضة عن مفهوم ما هو التساوي، وهي صورةٌ لا أصل، بدليل أنها غير دقيقة 100% فأصل الحرق الأول لا يمكن استعادته. ومعلوم أن الصورة نسخة عن أصل، فهي مقارب له لا مشابه له تماماً. ذلك أننا لن نستطيع أن نقول عن أشياء إنها متساوية تماماً 100%

إن القالب الذي تُصَبُّ فيه نماذجُ مصنوعة، ينتج أشياء مشابهة بنسبة كبيرة جداً، لكننا نعلم أنها لا تشابه القالب تماماً، بنسبة 100%

إذن فلدينا فكرة عن التساوي. ولكنها فكرة غير قابلة للتطبيق عملياً، إلا بنسبة مقاربة للحقيقة، وليس بدرجة 100%

فكرة التساوي هذه، من أين جاءت لنفس الإنسان؟ أقصد فكرة التساوي المطلق.

دعونا نجرب مرة أخرى:

حين نقول: رجل + رجل = رجلين، فنحن نعلم مسبقاً أن هذه النتيجة لا تساوي تماماً 2=2

لأننا ندرك أن 2=2 هي مسألة المساواة المطلقة في التجريد فقط. لكنها عند تحققها في الواقع (رجلان=رجلان) لن تتحقق إلا مع نسبة من الاختلاف. فلو كان التشابه تاماً لكان الأصل هو الصورة، لا فرق بينهما بالمرة.

إذن فمفهومنا عن 2=2 هو مفهوم يسعى نحو التشابه التام، لكنه لا يحققه في الواقع الدنيوي.

إذن فلدينا مفهوم له أصل لا نعرفه، هو مفهوم التساوي. فمن أين جاء هذا؟

هل يمكنني القول بأن إشهاد الله لبني آدم على وحدانيته، قبل خلقهم، هو مفهوم من هذا العالم، عالم الغيب، عالم الفطرة قبل الحواس؟

ربما يكون هذا هو، وربما لا، ولكن المؤكد بأن ستأتي لحظةٌ يمكننا فيها تذكر أصل النموذج، كما تفيد الآيات في آخر المنشور.

تلكم كانت مناقشة عقلية بحتة. والآن دعونا نستدعي تجارب البشر الممكنة:

بعد تجارب مخبرية لا بأس بها، قرر علم النفس ـ بنسبة لا بأس بها ـ أن ثمة شيئاً في أعماق كل شخص منا، لا يحضر لمجرد رغبتنا في حضوره، بل يحضر في مواقف بعينها تستثيره.

وهذا هو ما سموه اللاوعي أو اللاشعور (unconsciousness). ثم اختلفوا في تحديد أصله، من أين أتى؟

قال فرويد (Sigmund Freud) إنه ذكريات نرغب في نسيانها، لأنها تصطدم مع المجتمع. وقال كارل يونج (Carl Jung): إنه تلك الموروثات التي لا نعرف من أي حقبة انحدرت إلينا، ولم نعد نشعر بها مطلقاً. وهي توجه سلوكنا دون علم منا.

إذن ففرويد يقرر هنا إمكانية اكتشاف اللاشعور، وذلك بتحريضه على الصعود إلى الوعي، عن طريق الاستدعاء بالتحفيز أو التنويم المغناطيسي؛ أما كارل يونج فقد شكك في قدرتنا على استدعاء اللاشعور في أصله، وكل محاولاتنا لاستدعائه تاماً تبوء بالفشل. قصارى الأمر أن نحاول فننجح إلى حد ما فقط.

فإذا قبلنا بما يقوله يونج، نكون قد أقررنا بوجود منطقة في أعماقنا، سوف تظل غائبة عن وعينا، ولا يمكن لنا أن نتذكرها.

قلت: “منطقة في أعماقنا”.

ولم أقل: “كل ما في أعماقنا”.

ولقد ذكرت في المنشور السابق مثالاً على وجود نموذج في أعماقنا للمساواة التامة، لا يمكن تحققه عملياً، فيظل يسوقنا نحو تحقيقه. إذن فثمة علم قَبْلِيّ، قبل التجربة، ربما هو الذي يشكل مقياسنا للحق والخير والعدل والجمال… إلخ.

القرآن يقرر أن ثمة ذكرى بعيدةً في أعماق كل منا، سوف يستدعيها الله، يوم القيامة، لتشهد علينا إن كنا قد علمنا بوحدانية الخالق، ثم أنكرنا ذلك الآن في هذه الحياة.

هل كانت حياة ما قبل هذه الحياة هي التي انغرس فيها النموذج الأول؟

يبدو لي أن الآيات تقود إلى هذا.

“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ـ مِنْ ظُهُورِهِمْ ـ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، شَهِدْنَا. أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟* وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” الأعراف/172 ــ174

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عدنا إلى المعرفة القبلية (قبل التجربة) مرة أخرى.. !!
    كما كتبتُ تعليقا على المنشور السابق قبل يومين أو يزيد:
    تذكّر أن الله نفسه يقر بصحاح الفكر المادي وينفي المعرفة القبلية حين قال في كتابه العزيز:
    «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» [النحل: 78]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى