رسالة ثانية من تحت الأرض إلى الإقطاع الرجعي المرحوم

توفيق شومان| مفكِّر وخبير سياسي لبناني

 

في الثاني عشر من آب / أغسطس 2018، كتبت مقالة بعنوان ” رسالة اعتذار إلى الإقطاع الرجعي المرحوم”، وتاريخ المقالة كما هو ظاهر، سبق، بسنة كاملة، الانهيار المالي والاقتصادي الذي أودى بلبنان إلى قاع القاع.

آنذاك، لم يبق امرؤ في الهند، ولا نفر في السند، ولا رجل في بلاد الروم، ولا امراة في بلاد الواق واق، لم يتصل بي، بعضهم قال أفلحت، وبعضهم قال هرطقت.

وهأنذا بعد سنتين أعيد تقليب دفاتر الإقطاع وسجلاته وكتبه ومحفوظاته ومعاجم زمنه، وأقارنها مع ما وقع على اللبنانيين من نوازل الدهر ونوائب العصر وقوارع الأيام والأحوال.

في زمانكم أيها الإقطاعيون المرحومون كان فائض خزينتنا ثلاثة عشر مليار ليرة، بأرقام ذاك الزمان، وفي زمانهم، باتت خزينتنا فارغة الوفاض، خالية وخاوية وجرداء حتى من فلس الأرملة .

في زمانكم، كان خبراء المال والأعمال (ليس خبراء الأحزاب) يناقشون ويبحثون احتمال تحويل الليرة اللبنانية إلى عملة إقليمية، يا قوم: كدنا نسبق “اليورو” الأوروبي، وراحت شركات مثل “رينو” الفرنسية  و”سوناطرك” الجزائرية ، ودول مثل الهند، تحدد أسعار معاملاتها الخارجية بالدولار الأميركي، والجنيه الإسترليني، والمارك الألماني، والليرة اللبنانية .

تلك كانت ليرتنا … ليرتنا صارت ويلتنا مثل دولتنا .

أفهمتم أيها الإقطاعيون المرحومون: في أية هاوية نحن؟

في أي درك أسفل؟ … نحن في أسفل الأسفل.

وبعد … أيها المرحومون الإقطاعيون :

في زمانكم كان احتياطي الذهب في لبنان، هو الثاني عربيا بعد احتياطي السعودية، يفكرون الآن في بيعه، يبحثون عن نخاسين ودلالاين، هو ورقة التين الأخيرة التي تستر الناس من عورات الجوع وكفره، لم يجدوا بعد “تاجر البندقية”، يبحثون عن “شيلوك” هذا الزمان، ليأخذ ما يطيب له من أجساد اللبنانيين لحما وعظما ودما.  

أيها الإقطاعيون المرحومون: سيقول اللبنانيون بعد حين، كان لدينا ذهب فذهب، مثلما قالوا منذ حين، كان لدينا فائض في الخزينة، فأفضى وفاضا .

رحمكم الله أيها الإقطاعيون

في زمانكم، ما راقت لكم مشاهد أمهاتنا وجداتنا، يملأن جرار الفخار بالماء من منخفضات الأنهار أو أعاليها، ويحملنها على رؤوسهن الطاهرات الناصعات وهن مسربلات مجندلات بالإرهاق والأشواك وسائر أنواع الشقاء .

لم ترق لكم تلك المشاهد أيها الإقطاعيون المرحومون، فقلبمتوها رأسا على عقب، وبدلا من أن تذهب أمهاتنا وجداتنا إلى الماء، بات الماء يأتي إليهن، وبدلا من أن تحمل أمهاتنا وجداتنا الماء على رؤوسهن، بات الماء تحت أقدامهن، في منازلهن وبيوتهن .

يا ألله كم هو الفارق أيها الإقطاعيون المرحومون

ذاك كان في زمانكم، وأما في زمانهم، فقد عادت نساؤنا وبناتنا إلى شر البلية، صحيح أنهن ما عدن يحملن جرارا من فخار على رؤوسهن، ولكنهن صرن يحملن بأيديهن جرارا حديثة… غالونات “يا أيها الإقطاع المرحوم، وفي الأغلب والأعم، لا يجدن ماء يحملنه لا على رؤوسهن ولا بأيديهن، بينما أنتم أيها الإقطاعيون المرحومون جلبتم الماء إلى تحت أقدام الأمهات!

رحمكم الله أيها الإقطاعيون

في زمانكم كانت شوارع وأزقة قرانا ومدننا مضاءة بمصابيح الكهرباء، كهرباؤكم أيها الإقطاعيون، ما كنا نحتاج قمرا في صيف ولا “ولاعة” في شتاء ترشدنا إلى سواء الشارع أو الزقاق، كان الليل في زمانكم نوارا  ونهارا، وأما في زمانهم، فالعتمة أساس السياسة، عتمة العقل حتى لا يفكر أحد، وعتمة القلب حتى لا يحب لبناني لبنانيا، وعتمة الطريق حتى يتركوها  للسراقين واللصوص، وعتمة البيوت حتى تصبح مراقد لأحياء من دون حياة .

لا كهرباء في زمان ما بعدكم أيها الإقطاعيون

يسأل الناس ماذا حل بهم؟ يجيب الذين حلوا بعدكم: لا حل لواقع الحال .

كيف؟ يسأل الناس …

يجيب أصحاب الأمر والزمان: بدون كيف وبدون لماذا وبدون متى .

في زمانكم أيها الإقطاعيون المرحومون، كانت الأسرة اللبنانية تختار المكان اللبناني الذي يحلو لها، لا عائق طائفيا يصدها، ولا قاطع سياسيا يردعها، لم يكن الانعزال قدرا، ولا الانحباس جبرا، فكرة الاختيار كانت سيدة المقام والإقامة، ولكن في زمانهم، بات السؤال الرائج: كم لبنان على أرض الهوائج والموائج؟  لبنان واحد كما كان يردد صائب سلام؟ أم ” لبنانات ” كما تدل وقائع البلاد ومصارع العباد؟.

رحمكم الله أيها الإقطاعيون

سعيتم إلى إدخال الطوائف إلى الوطن، وهم يسعون إلى إخراج الطوائف من الوطن، هربتم من التقسيم، وهم هرولوا إلى التفتيت، حاولتم بناء دولة، وهم فككوا كل مؤسسات الدولة، في زمانكم كان لبنان قواميس جمال  وقصائد وأغنيات، وفي زمانهم صار لبنان أمثولة نفايات، في زمانكم كان اللبناني ذا هيبة وجلال ومغامرة نجاح، أينما رحل وحل  تُرفع له القبعة، وفي زمانهم بات اللبناني عنوانا  للفشل والدجل، حتى صار تعريف “اللبناني”  مقرونا  بالنجس والدنس والرجس  .

يا أيها الإقطاعيون المرحومون

في زمان ما بعد زمانكم، لم يولد شاعر، ولم يظهر مفكر، ولم يبرز كاتب، ولم يبدع فنان، ولم يسطع رسام، قحط ما بعده قحط هو زمان ما بعد زمانكم، حتى وسائل الإعلام التي كانت مفخرة لبنان، جعلوها وسائل للتشاتم ومسخرة الزمان، في زمانكم كان السُباب عيبا ووقاحة، وفي زمانهم صار السباب بطولة ورجولة،  وبصورة ذابت فيها الفوارق بين الأدب وقلة الأدب .

أيها الإقطاعيون الراحلون

لم يعرف اللبنانيون في زمانكم العيش على الإعاشات، فقد كان مرفأ بيروت يطعمهم ويتخمهم، ذاك المرفأ فجروه ودمروه بفسادهم  وغيهم وإهمالهم، مرفأ بيروت الذي كان وريثا لمرفأ مدينة صور حين كانت عاصمة الدنيا  في زمن الفينيقيين، أحرقوه مثلما أحرق الإسكندر المقدوني مرفأ  مدينة صور حتى لا تنافس مرافىء بلاد الإغريق، وها نحن نصاب بنكبات تاريخية ثلاث: الرومان أحرقوا مدينة  قرطاجة حتى لا تنافس روما، والإغريق أحرقوا  مدينة صور حتى لا تنافس أثينا،  والفاسدون المارقون أحرقوا بيروت حتى لا ينافسهم  هولاكو ولا تيمورلنك  في خراب أو حطام  .

الإقطاعيون المرحومون

ها نحن نقف على حافة الجوع، ها نحن نقترب من أطلال الدواء، ها نحن نوشك أن نعود أميين وغير قادرين على تعليم أبنائنا وأحفادنا، ها نحن ندنو من خسارة كل ما بنيتموه وأنجزتموه؛ فالمدارس الرسمية في لحظة احتضار، الجامعة اللبنانية يمكن ألا تعيش، الضمان الاجتماعي يمكن ألا يبقى، معاشات التقاعد غدت بخارا، رواتب الحد الأدنى والوسط باتت لا تكفي العشرة الأولى من ثلاثين الشهر، قروض الإسكان غدت ذكرى من السابقين والراحلين، فأين يسكن أبناؤنا إذا أردوا منزلا أو مأوى؟!

يا أيها الإقطاعيون

في زمانهم يقولون لنا تنسكوا وازهدوا، ما سمعنا منكم أيها الإقطاعيون كلاما في الزهد والنسك، وفي زمانهم يقولون إن الناس سبب إفلاس الدولة وليست أحابيل أهل السياسة وعقابيل فسادهم، وفي زمانهم يقولون إن الناس طماعون  وجشعون و” مزنطرون ” لا يعجبهم عجب ولا تقنعهم علة ولا سبب، وجراء انجرار أهل السياسة وراء طمع الناس ونهمهم وشراهتهم وشرهم، وقع أهل السياسة في شر الناس ومكائدهم وحفائرهم، وعلى هذه الحال، غدا أهل السياسة ضحايا والناس جاحدين وجلادين وسفاحين، مثل الأقوام التي قتلت أنبياءها في الأزمان الغابرة والدهور السالفة !!

أرأيتم أيها الإقطاعيون أرأيتم أحوالنا؟ أرأيتم أهوالنا؟ أرأيتم كيف يصبح المعنى بلا معنى، وكيف ينقلب الضلال حقيقة، وكيف تتحول السياسة من فعل إنساني لأجل الناس إلى فعل شيطاني يستهدف الناس ويتهمهم  ويستعجل حتفهم وأجلهم.

أيها الإقطاعيون المرحومون

هل يعرف الذين جاؤوا بعد زمانكم إن لبنان كاد يغزو الفضاء بـ “صورايخ أرز” التي وصل مداها إلى 600 كلم، كما أوردت مجلة “الجندي اللبناني” في كانون الثاني 1964، وعلى ما قالت صحيفة “الحياة” في عددها الصادر في التاسع عشر من تشرين الثاني 2012، ومثلما أكدت قناة “بي. بي. سي” البريطانية بتاريخ 14 ـ 11ـ 2013 .

أرايتم أين كنا؟ كنا نحلم باختراق الفضاء، أرأيتم أين صرنا؟ صرنا تحت الأرض .

كتب نزار قباني ذات قصيدة بعنوان “رسالة من تحت الماء “. وهذه رسالة من تحت الأرض.

رحمكم الله أيها الإقطاعيون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى