” من أنتَ أيُّها الملاك؟ “: إبراهيم الكوني يبحث عن البراءة الأولى (1- 2)

أ.د.يوسف حطيني | أديب وأكاديمي بجامعة الإمارات

عندما تصافح عيناك عنوان رواية”من أنت أيها الملاك”(1) تجد نفسك مشغولاً بهذا العنوان المثير. ولن يمرّ عليك وقت طويل، وأنت تطالع الصفحات الأولى، قبل أن تدرك أنّ الشغل الشاغل لهذه الرواية هو البحث عن الهوية التي تمنح الإنسان معنى وجوده، وأنّ الملاك هو في حقيقته أنت وأنا وإبراهيم الكوني(2) و”مسّي بن مسّي بسّا بن مسّي نسن”، ذلك البطل الروائي الذي حمل على عاتقه عبء الاسم والهوية، ورأى أنّ تحقيقهما يتشكّل من خلال الانتماء إلى المكان والذاكرة، وأنّه، أي الملاك، ليس مجرد رجل ينتمي إلى أقلية عرقية مسلوبة الحرية، بل هو أيضاً رجل يردد في تضاعيف خيباته المتكررة صدى كلّ المعذبين الباحثين عن ذواتهم في مواجهة إرادة التغييب.

حركات الرواية: ثنائية الحياة والموت:

تقوم حكاية هذه الرواية على ثلاث حركات: تتلخص الحركة الأولى في رحلة مسّي للبحث عن اسم ابنه، وتبدأ الثانية حين ينطلق إلى الصحراء دليلاً لـ “شركة التنقيب عن النفط” التي يكتشف فيما بعد أنها عصابة لسرقة الآثار، بينما تبدأ الثالثة مع سعيه إلى التطهّر من رجس الخطأ الذي نتجت عنه سرقة الحجر المقدس، ولا تنتهي إلا حين يضحي بابنه على مذبح الصحراء.

أولاَ – رحلة البحث عن اسم يرثُ الذاكرة: إيقاع الانتظار:

تحمّل الرواية عبء عقدتها للقارئ منذ جملتها الأولى، فهي لا تمهله حتى يستوعب الجوّ العام، أو البيئة الزمنية والمكانية التي يجري فيها الحدث، كما اعتاد أن يفعل كتّاب الرواية التقليدية، بل تضع القارئ في أتون العمل الروائي مع ظهور السياق الابتدائي الذي يلخص مشكلة مسّي، إذ يريد أن يسجّل اسم مولوده الجديد، فتعترضه عوائق أولها أن الاسم الذي اختاره للمولود ليس من النوع الذي توافق عليه دائرة السجل المدني:

“وضع مسّي شهادة الولادة أمام موظف السجل المدني وقال:

  • يوجرتن!

حدجه الموظف باستفهام، فأضاف:

  • يوجرتن! اسم المولود يوجرتن!

انحنى موظف السجلّ على القرطاس المتوّج بشعار “مستشفى الولادة” قبل أن يستنكر:

  • يوجرتن؟!” ص17.

تتصاعد الحكاية وتتعقد الأمور التي تبدو لأول وهلة بسيطة جداً، نتيجة أخطاء مسّي المتكررة، ابتداءً بالخطيئة الكبرى لهذا القادم من الصحراء، أعني: جهله بخصال المدينة وموظفي الدولة الذين يرون في “جموع الخلق التي تُقبل عليهم ضرباً من قطعان أنعام” ص18.

وقد أفرزت هذه الخطيئة مجموعة من الخطايا، فهو يقول لموظف السجل مستكبراً: “يوجرتن اسم ككل الأسماء” ص17، وإذ يقول موظف السجلّ عبارة “لم أسمع باسم كهذا من قبل” ص19 فإن مسّي يضيف خطيئة أخرى إلى خطاياه المتلاحقة، إذ يقول للموظف: “الجهل بالشيء لا يعني عدم وجود الشيء” ص20.

إنّ قدوم مسّي إلى المدينة(3)، وهو يحمل في روحه ذاكرة الصحراء وعنفوانها وتمردها يوقعه في ذلك النوع من الأخطاء الذي يتلخص في أن يطالب المرء بحقه في مجتمع مدني لا يعترف بوجود المرء ذاته(4)؛ لذلك ينتظر أياماً وأسابيع، ولا يملّ من المطالبة بحقه، في أن يعطي ابنه اسماً لائقاً، بل إنه يتجاسر ذات مرة ويطلب مقابلة رئيس الدائرة (ص22) فتكون النتيجة قهقة جماعية كريهة.. وما ذلك إلا لأنه جاهل بالمدينة التي ظنّ أنه يعرفها.

إنّ عدم إدراك مسّي لقوانين المدينة المفترَضة مكاناً لجزء معتبَر من الرواية كان لعبة فنية ذكية من إبراهيم الكوني؛ لأن هذا الجهل أعطى الرواية نوعاً من الإثارة التي تتكشف خيوطها شيئاً فشيئاً؛ فحين يلتقي رئيس لجنة الأسماء مع مسّي يوضّح له سرَّ رفض اسم يوجرتن، فيوجرتن اسم يحيل على الماضي، والمجتمع المديني الذي يشكّ في كل شيئ يرفض الماضي على سبيل الاحتراز:

“… فما معنى تجاهل الأسماء الواردة في القائمة المعتمدة في هذه الديار منذ سنوات، والبحث في عهود الظلمات عن أسماء مريبة بدعوى الوفاء لوصايا الأسلاف” ص87.

غير أنّ مسّي المسكون بوصايا الأسلاف، وروح الصحراء يرفض الرؤية المدينية لهذا الأمر ويعلن لرجل يستجوبه في اللجنة الأمنية: “إكبار الأسلاف لا يهدّد وحدة الهوية. لأن شروط أي وحدة هوية إنما تكمن في لمّ شمل الأجزاء” ص105.

ويستمرُّ مسّي في عناده، وفي استفزازه لقوانين المدينة التي يجهلها، مستنداً إلى ذاكرة الصحراء التي تسكن روحه، حتى ينتهي به الأمر، بدلاً من الحصول على وثيقة لمولوده الجديد، إلى مصادرة وثيقته هو، وما يترتب على ذلك من أوضاع قانونية تجعل وجوده غير شرعي.

ويغلب على الحركة الأولى من حكاية الرواية إيقاع الانتظار الذي يتجسّد بُطئاً في حركة الحدث، واستسلاماً لمجتمع المدينة والمدنية الذي يقوده من انتظار لآخر. فاللقاء الافتتاحي بين مسّي وموظف السجل ينتهي بأن يعطي الموظف إيصالاً بالاستلام إلى مسّي، ويطلب منه الانتظار لحظة، تتحول ساعات وأياماً وشهوراً، يقول مسّي:

  • “انتظرتُ زمناً شبَّ فيه الرضيع ولم يعد طفلاً” ص45.

لذلك أدرك “أنّ البلية ليس أن نهلك، ولكن أن ننتظر” ص42

ينتظر مسّي في ردهات السجل المدني حتى نهاية الدوام، تتوفى زوجته، فيدفنها ويعود للانتظار، وإذ يعييه الانتظار أياماً وأسابيع وشهوراً، يجد نفسه في مواجهة انتظار آخر. غير أنّ مسّي الذي احترف هذا الانتظار في الحركة الأولى للحكاية، لم يكن وحيداً، فثمة قرينه موسى، وثمة آخرون ينتظرون، ومنهم ذلك الرجل الذي يقول له:

  • “ألاصق هذا الجدار منذ شهور!
  • منذ شهور؟
  • ظهري نبتة في هذا الجدار” ص53.

هذا الرجل يدرك تماماً قدرة المدينة الفائقة على جعل الناس ينتظرون، فقد قال لمسّي قانطاً:  إنك لن تفوز بمقابلة رئيس الدائرة “إذا لم يقم اليأس بكنس الحشود التي تسبقك في القائمة، وإذا لم يكنس الموت من أمامك البقية الباقية” ص54

ثم يضيف:

“إذا ابتسم لك الحظ يوماً وأفلحت في الدخول إلى ما وراء هذا الباب، فلا تحسب هذا الفوز نهاية مطاف ، لأنه لن يكون سوى بداية المطاف؛ لأن الكاهن الذي يقبع خلف هذا الباب سيجد طريقة يعيدك بموجبها إلى نقطة الانطلاق” ص56.

ثانيا – رحلة الصحراء: ضياع الانتماء والهوية:

ولأنّ مجتمع المدينة لا يعترف إلا بالوثائق الرسمية، فقد قادت مشكلةٌ صغيرةٌ الابنَ يوجرتن إلى المعتقل، وهنا يتدخل موسى (قرين مسّي في رحلات الانتظار في دهاليز السجل المدني) ليعقد من وراء ظهر مسّي صفقة، تخلص موسى من انتظاره، ولا يدركها إلا متأخراً، إذ يخبره أنّ هناك رجلاً يمكن أن يتدخّل لإخراج يوجرتن من المعتقل، في مقابل أن يقوم مسّي بقيادة هذا الرجل إلى الصحراء في رحلة البحث عن الذهب الأسود.

ولأنّ الأبناء مبخلة مجبنة فإنّ مسّي يوافق على أن يقود القافلة إلى الصحراء، وينطلق في هذه الرحلة مع (الباي) صاحب شركة التنقيب الذي يكتشف مسّي بعد فوات الأوان أنه من لصوص الآثار، إضافة إلى بعض الخبراء والعمّال. ويعرّفنا الروائي في خلال هذه الرحلة عن كثب على الحجر المقدس، ذاكرة الأجيال الذي يتحدّث عنه مسّي، وإبراهيم الكوني من ورائه، بطريقة صوفية:

“كان الحجر مسبوكاً من صلد صقيل، ناصع، غريب عن حجارة صحراء الصلد السوداء، يقف مستديراً كقاعدة لحجر آخر، يلتحم به التحاماً، ينتصب فوقه ليكوّن قمّة مثلثة الأضلاع، مزبورة برموز الأبجدية القديمة بلسان اللغة القديمة الضائعة التي لم يعد في الصحراء من يستطيع أن يفك طلسماتها منذ زمن بعيد” ص ص172-173.

ويقع المسكين مسّي وسط الصحراء في مكيدة (الباي) إذ يدلّ ابنه على الحجر المقدّس، ويحدّث مسّي عن القبائل التي كانت “تنحر قرباناً في أزمنة المحنة، ثمَّ تذهب لتستجير بالحجر بدهن الصلد بشحم القربان، فلا تلبث البلية أن تنقشع” ص173.

غير أنّ يوجرتن الذي كبر بعيداً عن رعاية أمه التي توفيت، وبعيداً عن رعاية أبيه المشغول بتسجيله، كان له في الحجر رأي آخر، لا يحفظ للماضي قداسته المفترضة(4):

“لو كان ما تقوله عن طبيعة الحجر السحرية صحيحاً فلماذا لم يفلح في إنقاذ الصحراء من الجدب الذي شتّت شمل القبائل في السنوات الأخيرة؟” ص174.

مثل هذه اللغة التي تفارق منطق الأب لم تعد غريبة عليه، إذ إنَّ يوجرتن كان قد أخبره بأنصع بيان ملخّص رؤيته لتلك المعركة التي خاضها الأب في سبيل تسجيل اسمه في السجل، قال يوجرتن:

  • أن أحيا في المدينة باسم مفترَض أهون عندي من أن أحيا في هذا العدم باسم مكتسب” ص ص163-164.

ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، فالباي يستعين بالابن، مثلما تكشف شخصية نزيه الفاضل، في الوصول إلى الحجر المقدّس، وفي تهريبه مع مجموعة أخرى من الآثار خارج البلاد. وقد عنى هذا أنَّ تضحية مسّي من أجل ابنه كانت بلا فائدة، وأنّ معركة الاسم كانت تشبه معركة من معارك فارس الظل الحزين(5) على الرغم من أنّه لم يكن يحارب فرسان الهواء، بل فرسان السجل المدني المدججين بالقوانين؛ ذلك لأنّ هذه المعركة انتهت بهزيمة مزدوجة، إذ خسر ذاكرته وامتداده: خسر أمه الكبرى الصحراء، وخسر ابنه أيضاً.

من هنا يبدو أن المعركة الكبرى التي خاضها الأب من أجل الاسم عديمة الجدوى، وأنّ الابن شريك مع أعضاء المحفل الذين يريدون مصادرة الاسم فقط، بل مصادرة الذاكرة والتاريخ، بسبب ما يحيل عليه من المعاني النبيلة في لغة الأسلاف(6)، فهو يقول لموسى: “يوجرتن كلمة تعني “البطل الأكبر”! ص46.

(يتبع….)

………..

المصادر:

  • إبراهيم الكوني: من أنتَ أيها الملاك؟ (رواية)، كتاب دبي الثقافية (20)، يناير 2009.
  • إبراهيم الكوني: روائي وقاص ليبي، له دراسات ادبية ونقدية ولغوية وتاريخية، وسياسية، وقد ألّف أكثر من ثمانين كتاباً. من رواياته: (التبر) و(المجوس) و(رباعية الخسوف) و(الفم) و(السحرة) و(الفزاعة) و(الورم) و(يوسف بلا إخوته) و(ناقة الله) و(من أنت أيها الملاك).
  • موضوع الانتقال نحو المدينة موضوع أثير من مواضيع الأدب، وقد استمدّه الأدباء العرب، بشكل غالب، من الغرب. وتجلى أكثر ما تجلّى في الشعر العربي على شكل صراع بين الريف والمدينة، ويبدو هنا الصراع أكثر نجاعة في الرواية، خاصة حين تكون الصحراء طرفاً مقابلاً للمدينة.
  • في معظم الحالات يصبح المرء في المجتمع المدني أكثر استجابة للقوانين، وأكثر قابلية للخضوع، لأن قوانين المدينة أكثر بكثير من قوانين الصحراء والريف والقرية. وحين تكثر القوانين يميل المرء إلى عدم المغامرة حتى لا يخترق قانوناً ما من غير أن يدري.
  • الحجر هنا رمز للصحراء بكل عناصرها؛ إذ إنّ الكوني يريد أن يرسّخ سحر الصحراء برمّتها، ليس على نحو ما فعل باولو كويللو في “الخيميائي”، أو غسان كنفاني في “رجال في الشمس”، بل على نحو متفرد يمزج الواقعي بالسحري والأسطوري بالفلسفي في آن.
  • فارس الظل الحزين: لقب من ألقاب دونكيشوت الذي جاب البلاد، بمرافقة حماره الهزيل، وهو يحمل درعه القديمة ويعتمر قبعته البالية؛ ليحارب في معارك وهمية، تشبه المعركة التي خاضها مسّي في دوائر السجل المدني، من حيث عدم جدواها. ومن المعروف أن رواية دونكيشوت للإسباني سرفانتس.
  • إذا كان الأب مسّي يبحث عن اسم يحيل على أجداده الصحراويين، فإن إبراهيم الكوني من ورائه يريد اسماً فنياً قادراً على حمل دلالات الماضي، اسماً قادراً على أن يكون جزءاً من الشخصية التي رسمها بعناية فائقة؛ ذلك أنّ التسمية كما يقول كل من ويليك ووارين أبسط أشكال التشخيص. يمكن النظر في: رينيه ويليك (وأوستن وارين): نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الشركة التشريفية للتوزيع والصحف، الدار البيضاء، ط3، 1985، ص229.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى