سيميائية المكان في رواية أولاد الغيتو (اسمي آدم)” لإلياس خوري

 قراءة: أمين دراوشة | فلسطين

تأليف: أ.د آمنة يوسف محمد عبده

قسمت المؤلفة كتابها إلى مدخل، وثلاثة فصول، تناولت في البداية المفاهيم النظرية للسرد والمكان. فالسرد هو الطريقة التي تُحكى بها الرواية بوصفها رسالة تنطلق من الراوي (المرسِل)، إلى المروي له (المرسَل إليه) عبر الرواية (أو المروي).  

ويتداخل السرد مع السيميائية التي تتناول أنظمة العلامات بالنظر إلى أسس دلالتها وكيفية تفسيرنا لها. واستخدمت المؤلفة المنهج السيميائي في مقاربتها للمكان.

منظرو السيميائية اعتبروا الرواية متخيلاً سردياً طويلاً، فهي عالمٌ فنيٌّ خالٍ نسبياً من حضور الروائي بمعنى إن الروائي حتى وإن كانت روايته مأخوذة من الواقع فأنه يمارس الحذف والإضافة والاختيار والانتقاء من المحيط ما يشاؤه من الأحداث والشخصيات.

أما المكان فهو بمثابة العمود الفقري للنصّ، وهناك فرق شاسع بين عنصري الزمن والمكان، وترى سيزا قاسم إن الزمن قوة متحكمة في البشر يسيرون في مجراه دون أن يقدروا على إيقاف حركته الدائبة، في حين أن المكان – بالمعنى الفيزيقي- أكثر التصاقاً بحياة البشر، فبينما يدرك الزمان إدراكاً غير مباشر من خلال فعله في الأشياء، يدرك المكان إدراكاً حسياً مباشراً، يبدأ بخبرة الإنسان بجسده. وتنقل عن غاستون باشلار أنواع المكان: المجازي، والهندسي، والمعادي، والمكان كتجربة معاشة داخل العمل الروائي. وتنبع أهمية المكان من كونه يحتضن عمليات التفاعل بين الأنا والعالم.

وتتحدث الكاتبة عن علاقة المكان بالحدث وبالشخصيات، فالشخصية عند السيميائيين مكون سردي لايمتلك وجوداً مستقلاً يسمح بمقاربتها بعيداً عن مشكلة الدلالية ذاتها. والحدث ما هو إلا الشخصية وهي تعمل. ويظهر المكان “بوصفه مسرح الأحداث الرئيسة والثانوية والإطار الذي يجسد تفاعل الشخصيات والعلاقات بينها وتنامي أحداثها عبر أفعال السرد ووحداتها الثلاث ذات البداية والوسط والنهاية”.

وتتطرق المؤلفة لعلاقة المكان بتقنيات السرد، وأهمها التذكر، والذي يعني استرجاع أحداث وقعت في الماضي، وهي ذكريات إما لها علاقة بأمكنة الطفولة كالبيت أو المدرسة… وكلما تهافتت الذكريات ازدادت الأمكنة حضوراً وتنوعاً.

وقالت عن علاقة المكان بالوصف إن الوصف مرتبط بالمكان من خلال “وصف هندسته وسعته وأشيائه وملحقاته التي تكشف كلها عن البعد النفسي بل الاجتماعي خاصة للشخصية الروائية وبيئتها وطبقتها الاجتماعية”، وفرقت بين السرد الذي يُعّني بنقل الحوادث من خلال الأسلوب، والوصف المهتم بتمثيل الأمكنة والشخصيات ونقل للهيئات والملامح والسمات والأشياء. فالسرد يشتمل على الوصف، أما الوصف فلا يتطلب وجود السرد.

كما تناولت المكان والحوار وقسمت المشهد الحواري في الرواية إلى قسمين، هما:

  • الحوار الخارجي (الديالوج) المسموع الذي يتم بين اثنين فأكثر.
  • الحوار الداخلي (المونولوج) غير المسموع أو الهمس المسموع، وهو حديث الشخصية مع ذاتها.

وأهمية الحوار ناتجة من إنه يكشف عن البعد النفسي للشخصيات المتحاورة وعن شكل صراعها الذي قد يتفاقم إلى درجة الأزمة، قبل أن يهدأ تدريجيا في نهاية الرواية.

               

في الفصل الأول تناقش علاقة المكان بالعتبات النصية، فالعتبات علامات سيميائية، لايخلو منها أي نص أدبي، ويعتبر العنوان من أهم هذه العلامات كونه يستشرف حقول الدلالات، ويطل على ظلال المعاني، ويفسح المجال لامتداد الخيال نحو آفاق لا محدودة.

وتتبع الكاتبة العنوان المحوري للرواية (أولاد الغيتو) وتجلي دلالاته اللامحدودة وصلتها بالبنية العميقة للرواية.

تبدأ من مقدمة الروائي الخارجي (إلياس خوري) الذي أوضح للمتلقي أنه بصدد عرض دفاتر (آدم دنّون) التي أعطته إياها سارانغ لي بعد وفاة (آدم دنون) محترقاً بل منتحراً، وإنه لم يضف لها شيئا سوى إنه عنونها ب(أولاد الغيتو) حسب المقدمة التي قال في نهايتها: “وقررت أن هذا الكتاب يكشف حقيقة لم ينتبه إليها أحد، وهي أن الفلسطينيات والفلسطينيين الذين استطاعوا البقاء في أرضهم هم أولاد الغيتوات الصغيرة التي حشرتهم فيها الدولة الجديدة التي استولت على بلادهم ومحت اسمها. فقررت أن أضع لهذا الكتاب عنوان (أولاد الغيتو، وبذا أكون قد ساهمت، ولو بجزء يسير، في كتابة رواية لم أستطع كتابتها”. (الرواية، ص 18)

 والغيتو بحسب الراوية حيٌّ من أحياء مدينة (اللّد) في فلسطين يتذكره الراوي الداخلي في سياق سيرته الذاتية وصلته بهذا المكان الذي وُلد فيه.

ومن الأمثلة عى ذلك: “تذكرت كل شيء. رأيت كيف عاش من تبقى من أهل اللّد في غيتو سيجَّه الإسرائيليون بالأسلاك”. (الرواية، ص 96)

فالغيتو أصبح علامة لشعب كامل، وكل المناطق التي أحتلتها إسرائيل مقفلة بالحكم العسكري. ولم يكتف الإسرائيليون بالاستيلاء على مدينة اللد، بل استولوا أيضا على زمانها.

أما العنوان الفرعي (أولاد الغيتو) فتتجلى أهميته في علاقته بالمكان المحوري في بنية الرواية (الغيتو) حسب ما تؤكد ذلك البنية الدلالية على امتداد المنطوق السردي للرواية.

فإذا جعل المكان المحوري في الرواية نواة لأمكنة لا متناهية، فأنه جعل من اسمه أيضا

اسماً كونياً ومحورياً.

ويصبح الغيتو عند آدم هويته ونسبه وانتمائه. ويكتشف إن له جذورا موغلة في القدم في فلسطين، ويسرد حكايته الطويلة عن نسبه لتسهم حكايته في الدفاع عن جذوره الأولى  بمدينة اللد التي يقع فيها مكان الرواية المحوري (الغيتو) وإثبات حسن إنتمائه وهويته الحقيقة التي تتحول أحيانا إلى هوية تاريخية في صلتها ليس بالغيتو وحسب، بل بالقضية الفلسطينية بأسرها. وعلى الرغم من إطلاق أكثر من اسم عليه (حسن، ناجي، آدم) إلا إنه يميل لاسم آدم الذي يومئ إلى تراب الأرض، فهو ابن الأرض ولا آباء له. وربما لذلك يظل في صراع وجودي يأسره حتى النهاية المأساوية التي يصل إليها منتحراً وواضعاً حداً درامياً لقلقه الوجودي في صلته بالمكان المحوري والأمكنة المختلفة التي مرّ بها.

إن المكان المحوري في بنية الرواية، منذ العنوان الرئيس: غيتو اللد (الفلسطيني) يبقى الحاضر والمهيمن إلى حدًّ كبير على نسب آدم دنون في علاقته الوجودية بهذا المكان المحوري على المستوى الواقعي الذي تفسره البنية العميقة، أكثر من كونه مكاناً متخيلاً يتصل بأب مُتخيَّل، ماهو إلا اختراع ابتدعه آدم دنون لنفسه، معترفاً بذلك على مستوى المنطوق السردي.

 

وتحلل الكاتبة مجموعة من العناوين الداخلية بوصفها فصولاً يحيل فيها كل عنوان إلى البنية الدلالية العميقة، ومن هذه العناوين (وضَّاح اليمن، آدم دنَّون، أيام الغيتو، الحضيض)

ولا يغيب عن القارئ الفطن مدى ارتباط العناوين الفرعية بالعنوان الرئيس، فعنوان الحضيض مثلا هو وصف لحال سكان الغيتو وما وصلوا إليه من مآسي.

 

في الفصل الثاني تتناول المؤلفة المكان وعناصر السرد، وعن الزمن الواقعي تقدم لنا العديد من الأمثلة، منها ما رواه آدم عن المؤتمر الذي عقد في تشرين الثاني عام 1982م في أميركا وكان يناقش مذبحة شاتيلا وصبرا، وهو تأريخٌ لزمن يدل على مستوى البنية العميقة على أهمية القضية الفلسطينية وفداحة مذبحة شاتيلا وصبرا التي أثارت الباحثين المعنيين بالحدث السياسي وجعلتهم يسجِّلون بعقدهم للمؤتمر في الولايات المتحدة موقفاً رافضاً للصراع الدموي الذي وقع ضحيته الفلسطينيون في مخيمات شاتيلا وصبرا في بيروت، والذي كشف عن بشاعة المحتل ولا آدميته ووحشيته التي أراد المؤتمرون أن يفضحوا تفاصيلها في قلب أكبر قوة في العالم.

وقد يحضر التأريخ الزمني بوصفه دليلاً على عراقة المدينة وأصالتها التاريخية، فمثلاً، يروي آدم دنون عن تاريخ مدينة (اللد) من كتب التاريخ التي اطَّلع عليها، مثل كتاب (التاريخ الكبير لابن عساكر) وسواه من الروايات الدالة على حضارة المدينة وقداستها منذ فجر التاريخ القديم. إلى جانب ما حملته الذاكرة الشعبية الفلسطينية من حكايا مثيرة عنها، كانتماء النبي الخضر إليها.

يخدم الزمن المؤرّخ له بالأعوام المكان المحوري في بنية الرواية بوصفه دالاً سيميائياً على أهمية المكان في علاقته بسيرة آدم دنون الذاتية المتواشجة بنيوياً مع ذاكرة المجتمع الفلسطيني بأسرها في علاقتها بكل المدن والقرى والأحياء التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي ساعياً في القضاء على هويتها التاريخية.

وتشير الباحثة إلى تفوَّق حضور المكان في الرواية على حضور الزمن، الأمر الذي لا يمكن معه اعتبار الرواية ذات بينة زمكانية؛ لأن المكان المحوري يهيمن على إيقاع السرد فيها وتناميه بدءً من العنوان الرئيس للرواية (الغيتو) بوصفه دالاً سيميائياً يحيلنا إلى البنية العميقة للرواية، وهي ترتبط بالمرجعية التاريخية للمكان المحوري فيها وتحيل إلى الأحداث السياسية ذات الصلة البنيوية بهذا المكان الذي وقعت فيه النكبة الفلسطينية وما تلاها من المجازر الدموية والطرد الجماعي لـِ (أولاد الغيتو)، خاصة.

أما علاقة المكان في الأحداث فتورد العديد من المقطتفات من الرواية لتدلل على الوشائج العميقة بين المكان والأحداث.

فمثلاً يروي آدم دنون لنا قصة وضّاح اليمن في الصفحات الأولى التي شغلت لبّه فيها قصة الحب الدرامية التي عاشها وضّاح اليمن، إن آدم يشبه وضاح اليمن فكلاهما فشلا بالحب وماتا بصمت، وعاشا في تيه وضياع.

وخوري ينهي منطوقه السردي بعنوان يدل على بداية الحكاية، لانهايتها: (العتبة): “ذاكرتي وذاكرة أمي لاتسعفاني كي أصف مآلات المدينة. ماكتبته كان مجرَّد محاولة لفهم أول الأشياء، وكما ترون فإن ما أسمِّيه أوَّل الأشياء هو نهايتها بالنسبة للأغلبية الساحقة من أهل اللد، الذين ذهبوا في رحلة تيه مستمرة إلى اليوم”. (الرواية، ص 417)

وعن المكان والشخصيات، تقول تتعدد الشخصيات وتتنوع في علاقتها بمكان الرواية المحوري (غيتو اللد) وبالأمكنة المختلفة، منذ أول السرد حتى نهايته، وابتداء بشخصية البطل الإشكالي في الرواية: آدم دنون الذي يحكي لنا عن سيرته الذاتية الملتبسة بالغموض في علاقتها بكل الأمكنة، بل بالمكان المحوري الذي ارتبط بعنوان الرواية الرئيس، ونقصد (الغيتو) الذي بقي عالقاً في ذاكرته لأكثر من خمسين عاماً حتى بعد هجرته إلى نيويورك، وما عقده فيها من علاقات بالشخصيات ذات الصلة بالأمكنة الماضية والحاضرة والمستقبلة التي يستشرف غدها القادم (وَغَدَه)، باستمرار، على امتداد منطوق الرواية السردي.

في الفصل الثالث تناقش سيميائية المكان من حيث علاقته بثلاث تقنيات، لكونها تمثل تمظهرات فنية بارزة في بنية الرواية، وهي:

  • علاقة المكان بالتذكر.
  • علاقة المكان بالوصف التأملي.
  • علاقة المكان بالمشهد الحواري.

 

أما علاقة المكان بالتذكر فتبرز من خلال تكسُّر الزمن في وحدات السرد الثلاث ذات البداية والوسط والنهاية. وتنقل عن يمنى العيد قولها حول ذلك أنه “بالتذكر، يتكسَّر زمن القص، يتكسَّر وهو ينفتح على أزمنة له متعددة مبالغ في تعددها، إنها أزمنة تذكره، ماضيه الذي يراه من جديد. وفي هذا تبدو محاولة التقاط الخيط السردي محاولة متعبة وربما مستحيلة”.

ومن حاضر السرد المرتبط بنيويورك يستشرف بطل الرواية مصيره في الغربة التي ضاعت فيها هوَّيته ووجوده وانتماؤه بعد أن ترك ذاكرته في الغيتو واللّد وحيفا ويافا وبقية مدن فلسطين ذات الصلة بالماضي الذي يسكنه أينما اتجه.

إن ذكريات المكان المبثوثة في ثنايا الرواية تعتبر دالاً سيميائياً على سيطرة المكان المطلقة على أحداث الرواية، ومهما حاول البطل الهروب منها تبقى تلاحقه.

وناقشت الباحثة علاقة المكان بالوصف التأملي بشكل مستفيض، وقصدت به وصف التقنية السردية التي يسميها نقاد السرد (الاستراحة) أو الوقفة التي قسمتها سيزا قاسم إلى – صورة وصفية (ساكنة) و –صورة سردية (متحركة).

واعتبرت الباحثة أن حيِّز السرد في بنية الرواية تفوق على حيز المشاهد الحوارية فيها، لكنه، مع ذلك، يشكِّل ظاهرة فنية بارزة (نسبياً) من خلال ربطها بالمكان على امتداد منطوق الرواية السردي، الذي تأتي المشاهد الحوارية بوصفها واقعة في سياق الحكي الذي يقف فيه الراوي على أطلال الماضي.

وتتجلى علاقة المكان بالحوار منذ مقدمة الرواية، مثلا الحوار الذي دار بين سارانغ لي وأستاذها في جامعة نيويورك (المؤلف)، والحوار الجدلي الذي دار بين مأمون الأعمى وبين آدم دنون المهووس بالبحث عن والديه، وكان ارتباط الحوار باللهجة الشامية المفهومة للقاريء العربي ما يقرب النص الروائي من الواقع ويؤكد على توافر عنصر الصدق الفني المطلوب عند كتابة الرواية.

إن آدم دنُّون بسيرته الذاتية ومذكراته الاعترافية، يحكي لنا عن تفاصيلها ذات الصلة بسيرة القضية الفلسطينية وتأثير الصراع الوجودي بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين الذين قاموا بارتكاب المذابح في فلسطين، واستعاروا لها تسميات ذات جذور يهودية، من قبيل (الغيتو) يستعين هذا البطل الإشكالي والراوي الداخلي، أخيراً بالمشاهد الحوارية الدالة سيميائياً على الأبعاد النفسية والأبعاد الاجتماعية للشخصيات المتحاورة حواراً يتصف بالصدق الفني؛ لأنه يعْرض الشخصيات المتحاورة أمامنا مباشرةً بشكل لامجال فيه للكذب أو المواربة.

فالحوار الداخلي مسبوق بلازمة دالة عليه، ليشير على هيمنة ثنائية الإقامة والانتقال على حياة هذا البطل الإشكالي حتى أصبحت النهاية لديه تشبه البداية في علاقتها بسيرته الذاتية من ناحية، ومن ناحية أخرى، بالفضاء النصي لهذه الرواية التي تبدأ في منطوقها السردي بالمكان الحاضر بقوة (نيويورك) وترجع إليه في خاتمتها في فضائها المفتوح على كل الأمكنة.

في النهاية كنت أتمنى لو كان هناك تلخيص مقتضب للرواية، ليستطيع القارئ غير المطلع على الرواية أن يستمتع أكثر بالقراءة، واهتمام أكبر بلغة الرواية الشعبية وعلاقتها بالمكان.

الدراسة عميقة، وتتناول واحدة من أهم الروايات الحديثة لكاتب كبير بشكل مفصل، إن الباحثة آمنة يوسف أبدعت في إنتاج مؤلف سلس ومشوق وغني. وأظهرها كباحثة مجدة، انتجت كتابا قيما.

تثير الدراسة كل مهتم بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وخاصة الصراع الثقافي، وكل مهتم بتاريخ الصهيونية، وكيفية نجاح مشروعها الكولونيالي في فلسطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى