المُخلِّص الديني- الإلهي*

أحمد نسيم برقاوي | فلسطين

لايظهر مخلص ديني يعلن عن ارتباطه بالإله وأنه موحى من الإله أو يدعو إلى الإله إلا في حقل ثقافي يشيع فيه الإيمان بما هو فوق طبيعي، حتى لو أعلن أنه خطابه هو ذو مصدر ذاتي، لكنه يتضمن قولاً في الإله الذي يطلب ويأمر فعدد الأديان غير السماوية أكثر من عدد الأديان السماوية، فالبوذية وهي ديانة منتشرة على نحو واسع في الهند ليست متكئة على مفهوم الإله ولا مفهوم المعاد أصلاً، رغم التغبير الذي حصل فيها بعد قرن من ظهورها، والإقرار من قبل أحد فروعها بموجود كامل فوق العالم ويظهر على الأرض بجسد غير واقعي وبوذا نفسه تحول إلى كائن مقدس.

يتسم المخلص الديني بصفة “المعلم”، والمعلم يقدم خطاباً أساسه أخلاقي ذو ارتباط بالحياة بالعلاقات بين البشر، بالخير والشر، خطاب يؤسس لمايجب أن تكون عليه الحياة من أجل سعادة الإنسان وقد يصل الأمر حد التشريع.

ينطوي خطاب المخلص على وعدٍ، سواء كان وعداً بالسعادة الأرضية إن جرى الالتزام بأوامر المعلم التي استمدها من ذاته أو قال إنه استمدها من الإله، أو كان وعداً إلهياً بالثواب. هذا الوعد الدائم بالخلاص هو الذي يمنح المخلص الحضور الدائم، وهنا تكمن قوة المخلص الديني: الحضور الدائم الذي لاينفد.وتزداد قوة الحضور هذه مع تقادم الزمن على ظهور الملخص.

المخلص هو الذات الوحيدة التي تمنحها الذوات الأخرى مع الأيام صفة القداسة، والنطق بالقول الحق. إنه ذات يتميز بقدرات تفوق قدرات البشر العاديين كما يعتقد الأتباع.

وإذا كان المخلص مخلصاً إلهياً، فإنه يمتلك فضل قوة من القوة المطلقة حيث تغدو الذات البشرية حاوية على صفة من صفات الذات الإلهية.

إذاً المخلص – الذات – المركز المعلم هو خطاب يحوز على القداسة، خطاب ينطوي على وعد، خطاب لن يبهت مع التاريخ، خطاب قابل للتأويل الدائم خطاب، قابل للتصديق والإيمان، وحين يتم التصديق والإيمان تغترب الذات المصدقة للخطاب في الخطاب اغتراباً كلياً.

وليس هذا فحسب، بل وتغترب في سلوك المخلص المتصور. حتى في اللباس وعادات الطعام وعادات الحياة. هذا التماهي بين المخلص والذات المؤمنة بالمخلص يجمد الذات مهما بذلت من جهد لإيجاد حال من التلاؤم بين نص المخلص والواقع المعيش.

نحن أمام جدل بين ثلاثة أطاريح: الإله، المخلص، الأتباع، الأطروحة المركزية هي المخلص الذي يطرح نفسه وسيطاً بين الإله والأتباع، فحين يعلن المخلص أنه مرسل من الإله ويقدم الأدلة على إرساله فإنه في الوقت نفسه يقدم للناس ما يجب أن يقوموا به لضمان الحياة الدينا وحياة مابعد الموت.

الأتباع بدورهم آمنوا بالمخلص، العنصر الحاسم في الإيمان هو التصديق، تصديق المخلص. يمنح تصديق المخلصِ المخلصَ قوة ذاتية هائلة تضاف إلى قوته التي وقفت وراء إعلانه انه المخلص، وبدوره يمنح المخلص أتباعه قوة روحية تخفز الإرادة على الفعل والصبر والتضحية لنحلل هذه الحدود الثلاثة من حيث ترابطها.

المخلص في النهاية ذات أنتجت خطاباً، إذاً المخلص خطاب، الخطاب الصادر عن المخلص سواء جاء شفاهياً أو مكتوباً ينطوي على القداسة لأن روح الله سارية فيه عبر قول منسوب إليه، والخطاب الشفاهي يكتب فيما بعد الأناجيل مثلاً.

في كل خطاب مخلص هناك جملة من العناصر الأساسية المترابطة: عنصر ميتافيزيقي،عنصر أخلاقي، عنصر إقناعي، عنصر تشريعي، وعنصر الوعد كل ذلك في إهاب لغوي رفيع– بلاغي.

الذات – المركز المخلص تطرح خطابها على أنه خطاب كلي صحيح، أنه من وحي الزمان المعيش ومُفتنِ بجديد المخلص، لكنه خطاب يقدم أجوبة قاطعة وكلية فيأخذ الخطاب صيغة التوجه إلى الكل… لا يعود الخطاب محصوراً بالجماعة بقدر ماهو خطاب للبشر أجمعين لأنه ينص بالحق… وظيفة الخطاب أن يولد الاعتقاد المطلق، وتكون صحته أنه صادر عن المخلص وليس مدى مطابقته للواقع أو المنطق أو التاريخ.

على المستوى الميتافيزيقي: الكون وخلق الكون والروح والثواب والعقاب، فهذا كله استمرار للأسطورة وأحكام إخبارية أحكام تأخذ طابع السرد القصصي… ولكي يكون السلوك الأخلاقي التزاماً دائماً يجب أن يأخذ شكل الأمر الإلهي، فالسلوك سلوكان خير وشرير، لأن العالم عالمان عالم الخير وعالم الشر، كل ما هو منتم إلى عالم الخيرفهو إلهي فيما المنتمي إلى عالم الشر فيعود إلى قوة مناهضة ومتناقضة مع الإله: الشيطان،إبليس، الظلمة.. الخ، وبارتباط بالأوامر الأخلاقية يكون هناك عقاب وثواب.

غير أن الميتافيزيقا في الخطاب الديني لاتنفصل عن طقوس التي يجب أن يقوم بها المؤمن للاتصال عبرها مع الإله، تمنح الطقوس الإله والمخلص معاً اتصالاً دائماً من قبل المؤمن، ذلك أن الطقوس هي تجديد للذاكرة، وتجديد دائم.

وهذه الطقوس فردية وجماعية معاً، وآية ذلك أن الطقوس الجماعية تحتاج إلى أوقات محددة، ولهذا فإن كل المخلصين الدينيين احتفظوا بالمعبد.

الإله – المخلص- الأتباع يتعين في المعبد- الطقس- الكتاب، يتحول المعبد- الطقس إلى عادة فيما الكتاب يقوم بتوالد ذاتي عبر النظر إليه على أنه الحقيقة المطلقة التي يجب أن تظهر دائماً مثلها مثل الفكرة المطلقة عند هيغل ولكن بدون ديالكتيك.

الكتاب معيار للتاريخ كما يجب أن يكون، وعندها تصير مهمة المعتقدين بالكتاب تكسير رأس التاريخ لحملة على السير وفق حقيقة الكتاب. غير أن الكتاب لايستطيع الإفلات من قبضة التاريخ، الكتاب الذي أراده مبلّغه مطلق الصحة، مطلق الوظيفية، لا زماني يتحول بعد فقد المخلص إلى نص تاريخي ومنبع من منابع التبرير الأيديولوجي للاختلاف بين الأخلاف.

فها هي لحظة التصديق، التصديق بالذات المخلصة الناطقة، صارت وراء الحدث الأول،الأقوال الواضحة وغير المختلف عليها تخضع الآن إلى التأويل وللقراءات دون أن تفقد النص ومنبع النص قداستهما.إن ذات التاريخ وقد ابتعدت عن اللحظة المعيشة تركت خلفها ذوات سلطانية تتصارع حول امتلاك الأرض باسم النص المقدس واتكاءً عليه. وإبقاؤها على النص المقدس أساس لصراعها على الأرض احتفاظاً بالشرعية، ولأن النص المقدس لا يقدم لها شرعيتها مباشرة فإنها تحوله إلى نص مؤول وهنا تبدأ حرب التأويلات ذات الدافع السلطوي بين ذوات نسيت المخلص أو أنساها الصراع على امتلاك السلطة المخلص وأصل الخلاص وفصله.

وأول ما يخطر على بالها في كل حالاتها، حال انتصارها أو حال انكسارها أو تنحيها جانباً هو تأكيدها الحاسم والحازم بأنها استمرار للمخلص وللتاريخ. إذاً يترك المخلص وراءه ذوات مراكز تتصارع حول الأرض من جهة وتسعى لنيل شكلٍ من القداسة بادعائها الانتماء إلى الأصل – المخلص، وكما يكتسب المركز الجديد السلطوي صفات المخلص أو بعضها، ك:

نطقه بالحق والحقيقة والعصمة والعظمة، ويتحول قوله إلى القول الفصل محتفظاً بما صدر على المخلص ومستشهداً به.

تخوض الذوات المراكز الوارثة للمخلص صراعاً أهم سماته هو النفي المتبادل، لأنه صراع يتم في حقل الانفراد بالشرعية، وكل صراع من أجل الانفراد بالشرعية في حقل الادعاء بالانفراد بالشرعية، وفي حقل الأيديولوجيا التي كانت موحدة في لحظة من اللحظات لا يقود إلا إلى النفي المتبادل النفي، الذي يصل حد القتل والحرب، ذلك أن احتكار الشرعية يعني احتكار القوة بكل معانيها. والذوات المراكز التي تأتي مباشرة بعد المخلص وتخوض صراعاً من أجل امتلاك الدنيا، وتهدف لصناعة تاريخها الخاص بارتباط بالمخلص لاتبلى مع الزمن وتتحول إلى ذواتٍ – بيد تقادم الزمن عليها -شبه مقدسة عند الأتباع، وتلبس لبوساً جديداً وعلى نحو دائم، وحتى تغيب الشخصية الحقيقية للذات- المركز، وتبدأ كتابة السير الأيديولوجية لهذه الذوات.

يخُلفُ المخلص بعد رحيله وراءه اللاهوتي، اللاهوتي هذا يدخل هو الآخر الصراع على الدنيا لساناً لحال الصراع هذا، ويعلن اللاهوتي أنه سليل المخلص، وإن كل ما يفعله يشرح قول المخلص ويفهم.

وهكذا تتوالد من الكتاب الأصلي جملة من الخطابات وتتوالى أيضاً من المخلص جملة من ذوات لها صفات: البابا، البطريرك، الخوري، الشيخ، الإمام، الداعية، الفقيه، الحاخام، الراهب، البهاتارا.. هذه الذوات الأسماء تمنح نفسها حق القول الفصل، وحق الفقه، وحق التحدث باسم الأتباع وتتحول إلى ممثلي للمخلص دون أن يعينهم المخلص في منصب كهذا.

تحتفظ الثقافة الدينية على مر الأيام – بالقوة الرمزية لرجل الدين، هذه الذات القوية بكل ما تنطوي عليه هو ذاكرتها في الحفظ والقدرة على إيجاد الجواب من المحفوظ على أمر دنيوي أو الهي، ومحاولتها الاجتهاد وتأسيساً على النص الأصلي. وهو اجتهاد نسبي الانزياح عن الأصل وقد يواجه بذوات نصية ترسم حدوداً صارمة لهذه العملية، ودرجة حضور هذه الذوات قوة أو ضعفاً مرتبط باتساع حقل الحرية والتحرر وحضور الذات المدنية في المجتمع.

فتأثير موعظة في كنيسة فرنسية على المجتمع الفرنسي أو السامع لا يقاس إطلاقاً بتأثير خطبة جمعة في مسجد أفغاني أو مصري.وممثل المخلص الزمني الذي يعتقد بأنه يحتفظ بنص لازمني يحتفظ بمهمة دائمة ألا وهي إشاعة جوٍ من قابلية التصديق التي دونها لايكون لوجوده ولحضوره قيمة أو معنى.

*فقرة من كتابنا – أنطولوجيا الذات.. مؤمنون بلا حدود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى