قراءة سيميائية في قصيدة (على لسان عاشقة ) للشاعر زيدون السراج

ثناء حاج صالح ناقدة وشاعرة سورية / ألمانيا

يقول الأستاذ الشاعر زيدون السراج في تقديم قصيدته:

بعثت إلي برسالة ذات يوم تقول لي بأنها تشعر بما لا يقال ولا يحتمل، لم أكن أعرف الفتاة جيدا، ولكنها كانت تعلم بأنني شاعر وأرادتني أن أقول شيئا على لسانها، لم تعطني من مشاعرها سوى أنها تريد أحدا يحبها في تلك اللحظة ويمسح على شعرها وظهرها.

لقد ترددت أول الأمر لأنني لم أعتد أن أكون امرأة من قبل، وإن كنت حاولت مرات أن أشعر بما تشعر به.

وعدتها، ونبهتها إلى أن الكلام قد يبتعد عما تشعر به، أو عن قصتها إن كانت لها واحدة، ولم يكن يعنيها هذا الأمر

على لسان عاشقة

أما بعطفيكَ من شوقٍ إلى حجري
حمراءُ عينيَ يا ساليَّ لو تدري

أعد إليَّ رداءً ردَّ عن كبدي
بردَ الليالي وروحًا زنبقت ثغري

لقد تحدثتَ عن وصلٍ يطولُ بنا
دهرًا فما بالُ ما أحدثتَ من هجرِ

ها نحنُ أبعدُ مما كنتُ أحسبهُ
وهمًا يلي حالتي لقياكَ والسكرِ

قل لي بأنَّ هزالي فيكَ لم يشِ بي
وأنَّ دمعيَ من عينيكَ لم يجرِ

أنا تعبتُ أنا أهوى أنا امرأةٌ
أعصي النسيمَ وقلبي قُدَّ من زهرِ

جيشانِ حبي وصدٌّ منكَ يشعلهُ
يناصباني حروبًا ساحُها فكري

رفقًا بقلبي إذا ما الحب صيرَّهُ
بيتًا من الهمِّ أو أرضًا من الذعرِ

أنا أحبكَ لا عطفٌ يتيمني
إلا الذي فاض من جنبيكَ كالنهرِ

بك انقسامي وفي عينيكَ قافلتي
هيهات أبعدُ عن رحلي وعن شطري

أخشع جفوني وأرعش عظمَ خاصرتي
واطلب مصادرتي وليفتضح أمري

ولا تكن كالذي ملَّ الهوى فنبا
وألحقَ الذنبَ بالأقدارِ والدهرِ

بعني يديكَ وخذ عمري لقاءهما
حسبي هوىً ومنىً أن يطويا خصري

ولا تسل حين تلقاني مزعزةً
أرُجَّ تحتيَ أم ألقيتُ في البحرِ

ماءٌ أصابعكَ الفتّانُ حاملُها
داعب يديَّ بها وامسح على ظهري

لما عرفتكَ لم أعرف سوى كرمٍ
وقد سلوتَ فما يعنيكَ أن أدري

هلا أرحتَ على كتفيكَ سالفتي
وعدتَ قلبي وما فيه من الحرِّ

القراءة
في مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي ما تزال تحتفظ بطابع ” التحفّظ ” – ولله الحمد – تعبّر المرأة عن مشاعرها وهي محكومة بالحاجة للتعبير والخوف منه. فمما يؤخذ عليها صدقُها ومما تلام عليه حريتُها في التعبير. ذلك لأن حقها في الإفصاح عن مكنوناتها متحَفَّظ عليه في حِمى الحياء الاجتماعي .ولأن تعاليم الحياء الاجتماعي تتفق فطرةً مع الكبت، وتتعارض اكتساباً مع الإفصاح، فالمنطق يقول: إن مستوى الإفصاح عند المرأة العربية ( المسلمة ) يتناسب عكساً مع الحياء. لذلك قد تلجأ امرأة إلى التعبير عن نفسها باسم مستعار . وقد توكل امرأة عبء التعبير عن نفسها إلى شاعر “رجل” كي يتحدث بلسانها ويقول عنها ما لا تجترئ على قوله . وهكذا تتاح لنا الفرصة كي نتأمل مدى نجاح الشاعر في التعبير عن مشاعر امرأة عاشقة . أين تقمص حالتها فنطق باسمها بجدارة ؟ وأين انتحل شخصيتها ليعبر عن نفسه كرجل بلسانها مسقطاً حالته الشعورية عليها ؟ فنحن في تحليل هذه القصيدة سنتقصى الدلالات النفسية والاجتماعية لألفاظ النص بالمراوحة بين المنهجين النفسي والسيميائي في النقد.معتبرين الألفاظ التي وقع عليها اختيار الشاعر للتعبير عن مشاعر المرأة علامات ومؤشرات تفضي إلى مدلولات اجتماعية محددة، يمكننا بها إظهار بعض وشائج التواصل اللغوي في المجتمع.
يقول الشاعر زيدون السراّج على لسان عاشقة :
أما بعطفيكَ من شوقٍ إلى حجري
حمراءُ عينيَ يا ساليَّ لو تدري
لفظة ” عطفيك ” بصيغة المثنى من لفظة ( العَطْف ) وهو الحنو والإشفاق ولين المعاملة، تحيلنا إلى المعنى الواسع للانفعالات العاطفية . والشاعر يتصور إمرأة عاشقة لديها من الجرأة وشجاعة الإعراب ما يكفي لتسائل حبيبها عن شوقه إلى حجرها ، و(الحَجْر) يعني ” الحضن ” وهو الصدر والعضدان، ويصلح اللفظ بهذا التشكيل لأن يكون كناية عن ” العناق “. وأما (الحِجر) فيعني ” القرابة ” وربما عنى به الشاعر”التقرب ” وما في معناه من الاقتراب واللقاء .وكلا اللفظين يلائمان العاطفة في البيت لأنهما يصبان في معنى “القرب” . كما أن تَقَصُّد العمومية في دلالة اللفظين (عطفيك) و(حجري ) من قبل الشاعر قد أتاح المجال لخيال القارئ كي يسهم في تشكيل الخلفية النفسية المحتملة لبوح امرأة عاشقة قد هجرها من عشقت.
تقول :”حمراءُ عينيَ يا ساليَّ لو تدري” وما احمرّت عينها إلا من الأرق وطول السهاد ، فيما الحبيب سالٍ غير عابئ ولا دارٍ بمعاناتها- كما يتصوّرها الشاعر قائلة – ويبدو لنا هذا التصريح أقسى من أن تحمل عبأه امرأة تدرك أن السلوى قد طالتها، إن التصريح بالشكوى يضع من مستوى الاعتزاز الفطري بالأنوثة الكاملة التي تستشعرها كل امرأة في نفسها وتقدّرها تقديراً عميقاً يتعارض أصلاً مع الرغبة بالتصريح . إلا أن شدة المعاناة والحاجة للتفريغ قد يلهيان المرأة عن ذلك الاعتزاز الفطري فتسهو عن إقرارها المتضمن في خطابها ( يا ساليَّ) فتصرّح .
أعد إليَّ رداءً ردَّ عن كبدي
بردَ الليالي وروحًا زنبقت ثغري
يشبّه الشاعر حنان الحبيب “الرجل” أو حضوره، بالرداء الذي يردّ برد الليالي عن كبد امرأة عاشقة ؟ ويمكننا من هذا التشبيه تفهّم ماهية تصوّر الرجل نفسه لموقعه ومكانته عند تلك المرأة ، فالرداء الذي يقي الكبد من برد الليالي حاجة ماسّة لا يمكن الاستغناء عنها، وإن افتقادها من قبل المرأة – من ثمّ- أمر جلل. و تحيلنا لفظة ” الرداء ” المستخدمة في التشبيه إلى ثقافة دينية عميقة وجّهت أصل العلاقة الفطرية بين الرجل والمرأة في مجتمعنا على الدوام من منظور التشبيه في قوله تعالى {…..هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَ} البقرة/ 187 فليس الشاعر مخطئاً في أصل تصوّره لمكانة الرجل عند المرأة وفق هذه الثقافة . إلا أن الخطأ – مع ذلك – يتسرب إلى تشبيه الشاعر هنا كونه تجاوز شرط مصداقية هذا التصور لدى المرأة غير المتزوجة . فحتى لو كانت المرأة عاشقة فإنها لا يمكن أن تستشعر دور الرجل في أدائه مهمة الرداء إلا بوصفه زوجاً . وما لم يكن الرجل زوجاً فإنه لن يفلح أبداً في أداء مهمة الرداء . والجزم بهذا يعتمد على عدم شعور المرأة بالأمان مع الرجل في مجتمعاتنا مطلقاً إلا في ظل العلاقة الشرعية “الزواج” حصراً .فكيف لا تكون آمنة معه ثم هي تتمثله رداء؟؟!! وخلاصة الرأي أن الشاعر قد أنطق موكلته بغير ما تستشعره حقيقة ، لأن شرط الشعور بالأمان في نفسها أشد تضخماً مما هو في ذهنه، فهكذا يمكنه التساهل في وصف الرجل الحبيب “بالرداء” على لسانها، دون أن يعير اهتماما لشرط الأمان .والفرق بينهما في ذلك لا بد عائد إلى اختلاف طبيعة التجربة النفسية لكل منهما.
إلا أن الشاعر قد عوّض عن تجاوز الشرط النفسي للمرأة بما التقطه من مصداقية الانفعال في قوله ( وروحاً زنبقت ثغري ) فلقد قدّم لنا عبر هذه الصورة الشعرية الرائعة قراءة ناجحة في انفعالية المرأة حينما تدرك هي نفسها طبيعة تجاوبها النفسي مع رجل تحبه . حتى يتشكّل الثغر زنبقة في حضوره. وهذا الانفعال التجمّلي بتأثير حضور الحبيب سر بشري يدركه الإنسان ويلمسه في نفسه وفي سواه. وهو غير مقتصر على المرأة فقط ،بل هو شامل للجنسين معاً؛ وربما لن نغالي في القول إنه قانون سلوكي فطري عام يشمل جميع الكائنات الحية الواعية لدافعها الجمالي على مستوى الغريزة . فالاستجابة التجملية عند الإنسان بعامة وعند المرأة بخاصة تصلح- بكل تأكيد- لتكون مؤشراً دلالياً على صدق عاطفة الحب . وقد التقط الشاعر هذه اللمحة الانفعالية وأطّرها بتعبير فني جمالي مدهش في اختزاله عندما صوّر حركة الثغر في لفظ “فعل واحد” هو فعل التحوّل إلى زنبق ( زَنْبَقَتْ ) فجعلنا نتصور حركة الشفاه الوردية وهي تَنْزَمّ على شكل زهرة الزنبق بما لها من لون ونضارة ورقة، وبما حملها على هذه الحركة اللطيفة ” التزنبق” من دوافع التجمل كالتودد والتقرب !! فكان الشاعر شديد البراعة في ملاحظته هذا السلوك الانفعالي التواصلي اللطيف ، وكان شديد البراعة في التعبير عنه بالفعل ( زنبقت ).

لقد تحدثتَ عن وصلٍ يطولُ بنا
دهرًا فما بالُ ما أحدثتَ من هجرِ
في البيت تذكرة بالوعود قصرها الشاعر على لهجة عتاب غير حادة ،كونه يركّز على محور الاستعطاف ، لا على محور اللوم . وكأن المرأة قد علمت أن لا حقوق لها تمنحها صلاحيات اللوم الحاد لمن تحب. إلا أنني أحسبها ستكون أكثر حدة فيما لو نطقت هي للتعبير عن نفسها بلسانها ، فلا بد للمرأة من أن تعلن عن استيائها من تقلب مزاج رجل وعدها بوصل يطول ” كناية عن الارتباط ” ثم ما لبث أن تنصل من وعوده بسهولة ،وهي التي كانت تصدقه وتثق بكلامه. فأين لومها له ؟ وأين اتهامها له بخيانة العهد ؟ وهل تترك امرأة ما فرصة التنديد بسلوكيات رجل هجرها وهي تحبه ؟!
فأما أسلوب الشاعر في تساؤله ( فما بال ما أحدثت من هجر ) فيدل على أن تلك المرأة توشك أن تساير الرجل في رغبته بسلوانها، حتى أنها تخشى تذكيره خشية إزعاجه .وهذا يدل على أنها ترى في شعوره تجاهها محض فضل منه ، فكما لو أنها تتسوّل العطف منه تسوّلاً . بينما يمتلك هو حق منحها العطف أو منعه عنها . وإذا كان الأمر كذلك فنحن مضطرين لتصنيف هذه المرأة في فئة اجتماعية تفقد فيها المرأة ثقتها بنفسها لضحالة تكوين شخصيتها. ومثل هذه الفئة موجودة بالفعل في قاع المجتمع الذي حرم المرأة من حق التعلم فجرّدها من الثقل النفسي الذي يسمح لها بالتوازن عند سقوطها في الفراغ العاطفي.

ها نحنُ أبعدُ مما كنتُ أحسبهُ
وهمًا يلي حالتي لقياكَ والسكرِ
ها نحن أبعد مما كنت (أحسبه) ، تشير لفظة ( أحسبه) في هذه العبارة إلى أن المرأة كانت تتوقع أنهما سيبتعدان ويفترقان ،غير أنها لم تتوقع أن يبتعدا إلى هذا الحد . فعلينا أن نستنتج أن الشاعر يصوّر لنا امرأة كانت تعيش عاطفتها بقلق وتخوف . فلما تحقق ظنّها وحدث ما كانت تخشاه استسلمت للهمّ الذي تكابده في حالتين اثنتين : حالة تلي لقاءها العقيم بمن تحب. وحالة تلي غياب وعيها بتأثير السُكر.
” وهمًا يلي حالتي لقياكَ والسكرِ” كيف تعيش المرأة شعورها بالهجر ويصيبها الهم بعد لقائها بمن تعشق؟ و من أين تسرب وصف تجربة حالة ” السُكر” إلى كلام المرأة ،إلا أن تكون مشكلتها الخاصة جزءاً من مشكلة ذلك المجتمع. ونتساءل هنا :هل يشبه الهم بعد السكر الهم بعد لقاء الحبيب السالي ؟ ؟ وأخشى أننا الآن قد فاجأنا الشاعر متلبساً بشخصية الرجل وهو يصوّر لجوء امرأة عاشقة إلى “السُّكر ” كرد فعل على فشل علاقة عاطفية . أما المرأة ، فمن المستبعد أن تعالج مشكلتها بالُّسُكر في مجتمع متزن ظاهرياً. وفي كلا التشبيهين (الهم بعد لقاء الحبيب والهم بعد السكر )غموض وإيهام يسيء للمعنى المطلوب إجلاؤه .

قل لي بأنَّ هزالي فيكَ لم يشِ بي
وأنَّ دمعيَ من عينيكَ لم يجرِ
قل لي بأن هزالي فيك لم يش بي ! من المفترض أن يكون ذلك الرجل على اطّلاع تام على حال امرأة سبق له أن حدّثها عن الوصل كما في الشطر ” لقد تحدثتَ عن وصلٍ يطولُ بنا “. فكيف يكون هزالها “وشاية بها” لمن هو مطّلع على حالها ؟ والحل في هذا المأزق التعبيري أن يكون حرف (مِن) في قولها و(أنّ دمعي من عينيك لم يجر) بمعنى السبب ” بسبب ” والمعنى : بسبب عينيك . فدمعها يجري بسبب عينيه . ولا بد من هذا الحل تجنباً للاحتمال الآخر الذي يفسر جريان دمعها من عينيه كنتيجة لتعاطفه معها .كما لو كانت عيناه تشاطرانها البكاء . فهذا احتمال ضعيف على الرغم من جمال معناه . فهجره لها – لسوء حظها – يلغي احتمال تعاطفه معها إلى ذلك الحد .ثم إن لفظة ( يشي ) تصر على الإشارة إلى مجتمع ما تزال فيه المرأة ترغب بالتحفظ على مشاعرها أمام من تحب ، وفي هذه الإشارة تعارض وتناقض مع ما صرّحت به المرأة في البيت الأول . فهي تارة جريئة مقدامة في الإفصاح ، وهي تارة أخرى مترددة خائفة متقهقرة .على أن هذا الاضطراب قابل للتأويل في ضوء الاضطراب النفسي الذي تعانيه بسبب ضعف ثقتها بنفسها، و بمن تحب ، وبالمجتمع عامة.

أنا تعبتُ أنا أهوى أنا امرأةٌ
أعصي النسيمَ وقلبي قُدَّ من زهرِ
تكرار لفظة ” أنا ” ثلاث مرات في صدر البيت يفيد الإلحاح في الشكوى ” أنا تعبت “من الهجر “، و” أنا أهوى ” وكفى بالهوى شكاية . وأنا امرأة أعصي النسيم بما أرتكبه من مخالفات في هذا الهوى ” وهنا يبلغ التعبير الشعري مبلغ التوتر الوجداني الأنثوي بكلمتين اثنتين فقط ” أعصي النسيم ” فهذه صورة شعرية بسيطة التركيب إلى درجة تكاد تمر فيها على الذهن دون أن تلفت الانتباه بكلمتيها العاديتين .إلا أن الومضة الشعرية النفسية النفيسة تلمع أمام نظر المتأمل فيها ولو قليلاً . فمعصية النسيم من قبل امرأة عاشقة شاكية ينبغي تأويلها بمخالفة” فطرة الطبع الهادئ الرقيق” وهو ما يرمز له الشاعر “بالنسيم” ، فالشكوى والتململ والاعتراض على الهجران في صدر البيت كل ذلك يمثل أنواع العصيان الذي تخالف فيه المرأة طبيعتها النسيمية الرقيقة الهادئة.ويؤكد الشاعر هذا الاتجاه في التأويل بقوله “و قلبي قد من زهر ” فيا له من قلب رقيق ذاك الذي يماثل في رقته بنية بتلات الزهر المرهفة ! غير أن التعبير الشعري هنا برمته مشكوك في أمره أن يكون تعبيراً أنثوياً محضاً مما يقال عن لسان عاشقة من تلك الفئة الاجتماعية التي أشرنا إليها.
وحتى لو غضضنا النظر عن الطابع الذي قد تتركه تلك البيئة المحتملة على رؤية المرأة لنفسها .فإننا نستغرب أن تصف امرأةٌ “عادية “رقة قلبها وصفاً غزلياً جمالياً هكذا (قلبي قدّ من زهر ) وهي في شدة معاناتها ،هذا بعيد عن التصور. بل الأولى لها أن تعبر عن تلك الرقة من حيث هي ضعف نفسي مجرد عن طابعه الجمالي . لماذا ؟ لأنها كبشر تقيّم معاناتها تقييماً ذاتياً باطنياً أقرب إلى الضيق والإحباط ، وهذا التقييم لا يحتمل أن تلتفت بنفسها إلى الجانب الجميل الذي ينبغي ألا يكون مرئياً لها في (قلبها الرقيق ) لانشغالها عنه في تمثل مضار رقته . فليس منتظراً منها أن تصف قلبها وصفاً غزلياً جمالياً .بل الجدير بهذا الوصف أن يصدر عن رجل ” مراقب” لعله الشاعر الذي يشفق على تلك المرأة .
.
جيشانِ حبي وصدٌّ منكَ يشعلهُ
يناصباني حروبًا ساحُها فكري
الصد من الرجل قد يدفع المرأة للإحجام عن حبه. قد يغيّر كامل عاطفتها تجاهه ، فيقلبها عكس مجراها، فتكرهه بعد أن عشقته.ولعلها لم تعشقه إلا لاهتمامه بها وتطلعه إليها . و من أسرار المرأة أن غرورها بأنوثتها يفرض عليها أن تتمنّع كي تُطلَب . ففطرتها تأبى أن تكون هي الطالبة وأن يكون الرجل صادّاً متمنعاً . وتلك حقيقة فطرية تعيها المرأة ويعيها الرجال جميعاً . لذا فالشاعر الذي يتحدث عن الصراع الفكري بين جيش الحب من جهة المرأة وجيش الصد من جهة الرجل عليه أن يتغلغل في الشخصية العميقة للمرأة ليبحث في جذور ذلك الصراع النفسي. فلعله إذا بحث أعمق ،سيكتشف جيشاً ثالثاً هو جيش الغضب والرغبة بالانتقام من رجلٍ اضطر عاشقته لمخالفة غريزتها التي هي عند كل النساء دافع يدفع المرأة للتمسك بحقها في أن يُسعى إليها قبل أن تكون هي الساعية ، والمرأة إذا حدث وخالفت هذه الفطرة بسبب رجل ما فإنها لن تعفو عنه – غالباً- إلا بعد أن تحدُّث نفسها بالكيد له، ولو مجرد حديث نفس .
رفقًا بقلبي إذا ما الحب صيرَّهُ
بيتًا من الهمِّ أو أرضًا من الذعرِ
أنا أحبكَ لا عطفٌ يتيمني
إلا الذي فاض من جنبيكَ كالنهرِ
إذن، فهي تتوسم فيه العطف الذي يفيض من جنبيه كالنهر . وهذه هي النقطة التي تحسب للشاعر في تقديره أهم ما يجذب المرأة للرجل ، وهو حنانه وعطفه. . فنعلل بهذا العذر تجاوزها عن مطالبته بأسباب الهجر .وما تجاوزها إلا دليل على صفحها عنه. ولعل الصفح هو المانع لها من طاعة غريزتها في الرد على هجره بهجرٍ أقوى .
بك انقسامي وفي عينيكَ قافلتي
هيهات أبعدُ عن رحلي وعن شطري
بك انقسامي .. في إشارة إلى التناقض الذي يخلّفه الفشل في الحب في نفس المرأة . فهي منقسمة بين عاطفتها وعقلها . بين انغلابها وضعفها الحاصلين نتيجة للفشل (الهجر) وبين عنادها وإصرارها على التمسك بمن تحب على الرغم من هجره لها . تأكيد الحب وتأكيد المصير من امرأة عاشقة لا يبرره في مجتمعنا إلا أن يكون الحبيب الهاجر زوجاً . وعند ذلك يصبح القول ” هيهات أبعدُ عن رحلي وعن شطري” مبرراً بقوة شرعية نفسية عارمة من قبل المرأة . فكيف يكون شطرها رجل تحبه وهو هاجر لها وليس بزوجها؟

أخشع جفوني وأرعش عظمَ خاصرتي
واطلب مصادرتي وليفتضح أمري
لا يملك حق المصادرة إلا من يمتلك سلطة المصادرة والتي هي تشريع وحكم نافذان .فقول الشاعر على لسان المرأة ” اطلب مصادرتي ” إنما هو كناية عن تحصيل حق المصادرة بالارتباط الشرعي (الزواج). بدلالة ” وليفتضح أمري ” . فهو افتضاح بمعنى الإعلان والإشهار.وإن افتضاح أمر المرأة نتيجة مصادرتها (احتجازها بالزواج ) يضيف بكونه أمراً مرغوباً تلك الخلفية الاجتماعية إلى البيئة النفسية التي تعالجها القصيدة .والتي تمكننا من تصور طبيعة بعض الأعراف والقوانين الاجتماعية الكامنة في أفكار النص .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى