رسائل إلى السيدة «ع» (4)

بسام الشاعر | مصر – الجيزة

(1)

حضرة السيدة «ع»

الدرعمي الأديب، الواقع منَّا موقع الجوهر، الواقع منه الجميع مواقع العرَض.. سلام من الله على نفسِكَ العالية، وبعد.

قرأتُ رسالتَكَ الأخيرة، وقرأت معها آراء القرَّاء فسُرِرتُ لبعض ما وجدتُه فيها سرورًا كسرورك، وضحكتُ لبعضها الآخر ضحكًا كضحكك، وكنت معها كالطفل، جعل العيدُ بين يديه لعبةً جديدة؛ فأخذتْ عصافيرُ الفرح تحلق فوقه وتغرِّد، فكم لقرائك يا سيدي من ظَرْفٍ وطيبِ قول؛ بيْد أنهم يهوون سُكنىٰ أزقَّة الأسرار.

أما ما يخص «مسألة القراء»، فما لنا وللناس يا سيدي! وأنت تعلم أن الطبيعة التي لم تتقحَّمْها عيون الناس وأيديهم هي في النفس ذاك الخلق الأول للحسْن الذي لم يتغير منه شيء، فإنك ترى فيها نَوْرَ الزهر مطوقًا بالرياحين كأنه ورقة مصحف مطهرة، والفراشات أخذت تستودعها الأسرار في همس رقيق حتى لا يسمعهم من أحد، والشذى المتضوِّعُ من حولها هو روح الطبيعة وطبيعة الروح.. أما وقد تنبهتْ لها يدُ الإنسان الآثمة؛ فإن الجمال يستحيل موتًا بكل ما في الموت من قبحٍ يُدلِّلُ عليه الإنسان بأسماء مختلفة مستعارة.

وما كانت الجنةُ بما فيها جنةً وفردوسًا إلا لأنها اجتنَّتْ عن عين الإنسان، فما باشرها القلب؛ فلا يدري إنسان ما فيها، وهذا عين الرحمة، بل إنه باب في بلاغة الحكمة عظيم؛ إذ لو عرف الإنسان ما ينتظره فيها معرفة تامة تنزله منازل المعاينة؛ ما تشوَّق إليها، وما شغل خاطره بما أُعِدَّ لأهلها، ولا جَالَ بخاطره يتأملها، ولخَبَتْ جذوةُ الشوق في صدره إلى أن تنطفئ، ولما وُجد له ذاك السعي في تحصيل مراتبها، فالإنسان أتى لهذه الدنيا وأتتْ معه أسرار دفنتْ في كهوف المجهول، فهو لا يزال يبحث عنها؛ يفتش عن تلك الأسرار يروم أن لو أدركها!

هذه «مسألة القراء» التي أظننا فرغنا منها وإن كانت مسائلهم [اللطيفة] لا تنقضي.

ولندع القراء الآن يقرؤون، ولنُرجعْ عودَنا على بدئنا؛ ففي حديثنا الأخير سألتني عن الشعر، ومن أفضل الشعراء؟ والحق أن سؤالك هذا يحتاج لبسط جواب في فلسفة طويلة، ولكن يمكن اختصار جوابها الآن في كلمتين اثنتين؛ أفضل الشعراء هما «الطبيعة، والنفس الإنسانية». فالنفس الإنسانية هي ذاك الشاعر العظيم الذي يبحثُ عنه الجميع ويسْكنُ هو الجميع، أمَّا الطبيعة فهي أم ذيَّاك الشاعر وحاضنته. وإن الحكمةَ والمجدَ ليَقِفان من هذا الشاعر بقدر تعلُّمه من أمه «الطبيعة» وأخذه عنها، فعليه أن يكون بارًّا بها في كل حالاته وصولًا، فإنهم يذكرون أن ثمرة البرِّ هي إحدى ثمار الجنة التي اصطحبها آدم معه قبل نزوله للأرض، وبقيت من بعده في دنيا الناس.

لا بأس بنشر هذه الرسالة على قرائك متى أحببتَ، فقوِّمْ منها الحرف، ونقح فيها ما شئت.. أقام الله بكَ دولة الأدب، وجعل منكَ إمامَ بيانها.

***

 

(2)

حضرة الفاضلة «ع». شوق وتحية لكِ أينما تكونين.

ما أعذب رسالتك يا «ع» وما أحلاها! لقد وقَعتْ حروفُها في نفسي موقع روحين التَقَتَا بعد شوق بعيد.

أما وقد سألتِ عن حالي، وكيف أنا! فأظنني بخير والحمد لله، فإني دائمًا ما أكون بخير حتى وإن صعدتْ بي الحال درجة أو هبطتُ أنا فيها دركات، ثمَّ كيف لي ألَّا أكونَ بخير وأنا أكتبُ إليكِ!!

خرجتُ مُذْ ستة أيام أرتاضُ بضفاف النيل بعد أن أضرعتني الامتحانات للنزهة، وأنا يا «ع» يوجد بيني وبين أيام الاختبارات وحشةٌ مخيفة، وحشةٌ كتلك الكامنة في كهف مظلم مجهول. لا أعني الخوف.. بل أعني؛ في أيام الاختبارات هذه أكون مُجْهَدَ الجسم، مكدود الذهن، عليل الخاطر؛ مع أني لا أرهق نفسي في الإعداد لها من مذاكرة وحفظ واسترجاع كباقي أقراني، ومع هذا فدائمًا ما تبعثُ هذه الأيام الضجر والملالة في نفسي، وهذا الذي يجعلني أجدُ منها ما أجد. ويبدو أن فكرة الاختبارات النظاميَّة هذه في ذاتها غدتْ مرهقةً تكبِّلني بشباك الوهن متى أظلتني غمامتُها الممطرة؛ حتى صار ذلك مني لازمة!

خرجنا قاصدين النيل نستروح مما نجد وكان معي عدد من الصحب، أفنينا الوقت بين الاستماع لبعض القصص التي يلقيها صاحب لنا يجيدها بصورة تدهشكِ؛ قصَصُه غريبة متى تسمعينها، تعرفين أنها صنعة بنات الجن؛ وبين تأمل لمياه النيل والنظر لهدوئه، فنِيلُ القاهرة على تدفُّقه وفيضان مائه، وسرعة جريان تياره؛ إلا إن الهدوء ينبت ويزهرُ مع تلك الأشجار الضخمة على ضفتيه، وهذه الأشجار لها معي شأن آخر ربما حدثتُك به لاحقًا.. ما أجمل نيل القاهرة يا «ع»! تعلمين.. إنه يشبهك كثيرًا؛ و وربما يكون ذلك من أسباب حبي له!! وما أجمل الهدوء كذلك! إنه ضرب من البيان لا يدركه إلا من عرفتْ نفسه بلاغة الطبيعة، أما ترين الفرَاشةَ المُهَفْهَفَةَ ترفُّ في هدوءٍ ينثره جناحاها؛ فتتحرك لها النفس، ويرقبُها من أخذتْ بلُبِّهِ بنظرٍ، لا نظر العين بل نظر الفؤاد؛ فهو يطير معها كذرَّةٍ على جناحيها، خفيفٌ كخفتها، رقيق كرقتها! تعلمين يا «ع» إنَّ الإنسان وحده هو الثرثار بطبعه في هذا الوجود، ثرثرة صاخبةً فجَّة، كتلك الضَّجَّةِ الكائنة بمحطة القطارات.. كلٌّ يصرخ في وجه صاحبِه وفي الناس، فإن لم يجد حوله منْ يصرخُ فيه؛ صرخ هو في نفسه، فإن صمت الجميع صمت القطار نفسه بسبب ضجتهم عسى أن يسكتوا. أما باقي الموجودات فإنَّها لا تنادي ولا تصرخُ إلا لعلَّةٍ أو غرض يدفعها لذلك، صراخًا تكون من ورائه الفائدة.

ولندع عنَّا ثرثرة الناس وفضولهم، وقولي لي: هل قرأتِ للشاعر التشيلي «بابلو نيرودا»( )؟ إنْ لم تكوني قد قرأتِ له؛ فطالعي بعضًا مما كتب؛ فمعاني هذا الشاعر تستحق العناء في سبيل تحصيلها.

ما زلتُ أدعو لكِ.. فكوني بخير من أجلي، والله يحفظكِ، والله يجعلُ البسمةَ على شفتيكِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى