تحليل نفسي للحالة الشعرية (1-3)

ثناء حاج صالح ناقدة وشاعرة سورية / ألمانيا

تفرض كتابة الشعر على الشاعر ثلاث متلازمات نفسية، لا يمكن الفرار منها؛ بسبب أغراض الشعر النفسية الثلاثة التي يسعى الشاعر إلى تحقيقها من خلال الكتابة.

فأما أغراض الشاعر الثلاثة فهي:

1-تفريغ شحنات القلق الإبداعي المتراكمة في نفس الشاعر.

2-إثارة المتلقي عبر نقل حالة الشاعر النفسية والأيديولوجية إليه .

3-التلذذ في ممارسة العملية الإبداعية .

وأما المتلازمات النفسية التي تنجم عن تحقيق تلك الأغراض، وتتزامن مع ما اصطُلِح على تسميته (بـالحالة الشعرية) في أثناء الكتابة فهي:

1- متلازمة التفريغ – التوازن النفسي /الارتياح  .

2- متلازمة الإثارة – الرغبة بالمبالغة.

 3- متلازمة التلذذ بممارسة الفعل الإبداعي – إشباع الحس الجمالي .

1- تفريغ شحنات القلق الإبداعي :

تختلف الشخصية المرهفة للفنان عموماً والشاعر خصوصاً عما عداه من البشر، بكونها ذات عَتَبة تَحمُّل أقل لضغط المشاعر والأحاسيس ؛ فهي تتنبه وتتأثر  بدرجات أقل من المؤثرات والمنبهات الجمالية أو العاطفية، فيعاني الشاعر مع مستوى وعيه وإدراكه الذهني المتوهج والمتيقظ قبل الشروع في الكتابة وفي وقت انغماسه في الحالة الشعرية  من تضخيم عفوي للأحاسيس والمشاعر يبدو مبالغاً به بالمقارنة مع ما هو عليه الحال عند الإنسان العادي.وهذا يمكن أن يسمى عموماً برهافة الإحساس  .

وبما أن مقدار التأثر بالمؤثرات الحسية والنفسية أشد عند الشاعر، فإنه يتبع ذلك أن يكون انفعاله أو التعبير عما في نفسه وذهنه أكثر توتراً وأقوى تأثيرا .

ويستحق هذا الفهم للأمر أن يحوز من الثقة والتأكيد ما يحوزه القانون العلمي في مبدأ نيوتن في فيزياء الميكانيك، والذي ينص على أن “لكل فعل رد فعل مقابل  يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه” فهذا القانون (من وجهة نظري) ينطبق تماماً على الميكانيكا النفسية للإنسان (السلوك ). فيعقبُ التأثرَ الشديدَ من قِبَل الشاعر بالمثيرات النفسية استجاباتٌ مفرطة تجاه تلك المثيرات .

ولأن تلك المؤثرات تشحن مشاعر الشاعر بشحنات زائدة من القلق والتوتر، فإن استجاباته السلوكية تنحو به إلى ممارسة سلوك التفريغ الانفعالي عفويا وتلقائيا . فتكون الحاجة للتفريغ ملحَّة، ويصبح الاعتياد على الدخول في الحالة الشعرية أشبه بالإدمان الذي يلجأ إليه من يتعاطى المهدئات طلباً للتخلص من مشاعر القلق .

سلوكيات تفريغ شحنات القلق الإبداعي تتم عموماً عبر ممارسة أي نوع من آليات التعبير ذات الطابع  الجسدي أو الذهني. أي أنه لا بد من الفعل الإبداعي الذي قد يمارسه الفنان/ الشاعر بالرسم أو عزف الموسيقا أو الغناء أو الرقص أو الكتابة الإبداعية . وذلك ما يضمن العودة إلى حالة التوازن النفسي ، فالارتياح .

 ما يميِّز الفعل الإبداعي التعبيري عند الشاعر عن غيره من الفنانين، أنه مضطر لاستخدام اللغة التي هي في الأساس وسيلة تفكير،وكونها وسيلة تفكير يجعلها أكثر ارتباطا وتداخلاً مع شروط التفكير وقيود المنطق فيه. بالمقارنة مع وسائل التعبير الأخرى في حالة الرسم أو الموسيقا مثلا والتي تتيح للفنان فضاء أوسع من حرية التعبير غير المشروط وغير المقيَّد بقواعد المنطق. 

 ولأن مفردات اللغة هي وعاء الفكر والتراكيب اللغوية متجذرة بجذور المنطق،  فإن بداية دخول الشاعر في الحالة الشعرية قد تكون عسيرة ، لأن المفردات اللغوية لا تتخلى عن  دلالاتها المعجمية الموروثة والمألوفة  بسهولة ؛ فأول ما يبدأ الشاعر بطلبها ومحاولة الاختيار لها.فإنها تأتي محملة بإرثها الدلالي الضخم المهيمن الذي تفرضه بكامل ثقله وضغطه على ذهن الشاعر. 

وإن جزءا كبيرا من الضغط النفسي للدلالات اللغوية الموروثة والمألوفة يقبع في ما تستحضره معها من إيحاءات ودلالات معنوية محفوظة ومتداولة عبر ألفاظ معينة .وفي حين يكون الشاعر في لحظات التفريغ الإبداعي أحوج ما يكون للتفلت من قيود الدلالات المألوفة ، وهذا ما يجعله في حالة صراع بين رفض المألوف المهيمن على ذهنه من الدلالات المعنوية الجاهزة للمفردات، والسعي لابتكار واكتشاف ما هو جديد من حقول الدلالات اللغوية .

فالمفردات تتدفق في ذهن الشاعر وتضغط عليه بمحمولها الضخم من الإرث الدلالي المألوف والمتكرر. والشاعر يحاول مراوغتها ، ويسعى إلى إزاحتها عن دلالاتها المألوفة متمرداً عليها ومقاوماً لسيطرتها وتسلطها على ذهنه .  ولعل الخروج من هذا الصراع منتصراً هو الهدف الأسمى والأعظم للشاعر حينما يكون تحت تأثير الحالة الشعرية . 

هذا الصراع الإبداعي العاطفي الثقافي يعيق فعل التعبير عند الشاعر وقد يستنزف طاقته، قبل أن ينتهي من تفريغ شحنات القلق الإبداعي، فيعطِّل فعل الكتابة مؤقتاً أويؤخر إتمام النص الشعري . 

وفي الحقيقة فإن الشاعر يكون خلال معاناته لذلك الصراع باحثاً عن مخرج ٍ أو منفذ لغوي يكون له نافذة نحو حقل دلالي جديد، ما أن يقفز منها حتى يجد نفسه في أرض جديدة لعوالم من الدهشة يرتاد فيها حقولا دلالية جديدة لإيحاءات الكلام .

ولنا أن نتخيل حالة الضغط النفسي الذي يعانيه الشاعر مع بداية دخوله في الحالة الشعرية وبحثه عن ذلك المنفذ اللغوي، كحالة الضغط في بالون  ممتلئ بالهواء .فالضغط في داخله يكون في كل اتجاه. فإذا ما تم ثقبه بإبرة حادة.فإن ذلك الثقب الدقيق سيحدث انفجاراً تتوزع فيه جزئيات الهواء المضغوط في كل اتجاه في المكان المحيط. ومثل هذا قد يحدث بطريقة ما عندما يجد الشاعر ذلك المنفذ اللغوي، إذ تتدافع مكنونات نفسه وتتزاحم لتبدأ خروجها عبر ذلك الثقب التعبيري ، الذي قد يكون جملة شعرية بيتا من الشعر أو تركيبا لغويا يختزل صورة شعرية أوشعوراً جارفا. فتزاحم التعابير اللغوية المشحونة بالمعنى هو المرحلة الأولى لأجزاء النص الشعري قبل تنسيقه ليكون متماسكا. ولأن التعابير الشعرية تخرج بشكل منفلت، فإنه يتوجب على الشاعر في تلك اللحظات الحرجة قصيرة الأمد أن يكون سريعاً وماهراً في اصطيادها قبل فرارها وابتعادها وتلاشيها.ولو تراخى الشاعر قليلا عن تسجيل انفعالاته وما عرضَ له من تعابير لغوية طارئة ، لتبعثرت وتفلتت منه قبل أن يقبض عليها.

لذا فإن توتر الشاعر في اللحظات الأولى للكتابة يكون كبيراً لخشيته من إضاعة صياغاته التعبيرية ونسيانها قبل تسجيلها. فيما لو اضطر للتفاعل مع العالم الخارجي في تلك اللحظات، فتجده يثور لأتفه الأسباب فيما لو تم قطع العملية التفريغية الانفجارية الإبداعية عنده. والسلوك الانفعالي هنا سلوك غريزي. والغضب فيه شبيه بالغضب الذي يشعر به شخص عطشان قمتَ بقطع عملية شربه للماء .أو شخص جائع منعته من إكمال تناوله للطعام بعد أن بدأ بتناوله.  وهكذا عموماً فالإنسان لا يتقبل قطع أي عملية ذات طبيعة غريزية تفريغية، أو إشباعية .

وينبغي الإشارة إلى أن أجمل الاقتناصات التعبيرية  في الشعر والتي تكون أشد توهجاً في صدق عاطفتها وأكثر عذوبة وانسيابية في وقعها الإيقاعي في الأذن، هي تلك التي  تُقتَنَص مباشرة بعد تدفقها في اللحظات الأولى للانفجار التعبيري. والتي تكون محملة بذلك التوتر الانفعالي الذي لم يخضع للتحوير والتشذيب من قبل الشاعر.

يتبع بإذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى