محروس بريك و تقنية الاستدراج الدرامي في النص الشعري

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم في الإسكندرية

أمّا قبل: “نظرية الاستدراج الدرامي مُسَجَّلَةٌ باسمي برقم إيداع بدار الكتب والوثائق القومية”

أمّا بعد: عنوان ربما يحمل مصطلحا غير مألوف لدى المتلقي ، إلا أنه يجسد تقنية من تقنيات الأسلوب العربي الرصين، يدركه الخاصة من الشعراء الذين يملكون قدرة حرفية نادرة في العرض ، واتساع أفق وإدراك وتصور كلي لدراما القصيدة .

“الاستدراج الدرامي” يعرفه جيدا السينمائيون لأنه ركيزة من ركائز عنصري التشويق والصدمة ؛ إذ يعتبره السينمائيون من أهم عوامل نجاح العرض السينمائي ، حيث نجد الدراما تبدأ هادئة وديعة تأخذنا إلى عالم مغاير تماما لما يريد صاحب العرض مفاجأتنا به ثم في لحظة فارقة يقوم باستدارة فنية مفاجئة ليصدم المتلقي بالحدث الذي يريد عرضه داخل دائرته الدرامية دون سابقة إنذار درامي . ومن خلال تلك الصدمة الدهشة يحفر في ذاكرة المتلقي الوجدانية قبل الذهنية صورة الحدث الحقيقي المراد عرضه .

إلا أنني ومن خلال معايشتي لنصوص الساحة الأدبية العربية الآنية قد وضعت يدي على طائفة قليلة من الشعراء من ذوي التقنيات الشعرية النادرة يستخدمون هذا التكنيك السينمائي داخل دراما القصيدة فيحققون الدهشة والمتعة الفنية من خلال الصدمة الدرامية التي يقدمونها في القصيدة الشعرية .

ومن هنا سحبتُ المصطلح من السينما و نسبتُه للشعر فأصبح هذا المصطلح في نقد الشعر منسوبًا إليَّ .

والعجيب حقا أن تلك الظاهرة الدرامية في الأسلوب العربي ظاهرة قرآنية بامتياز في الأسلوب القرآني ، ولا أدري لماذا لم يفطن إليها الشعراء و النقاد في أغلبهم اللهم إلا القلة النادرة من أمثال الشاعر محروس بريك

هل لأن أكثرهم لا يقرؤون القرآن، أم ربما يقرؤونه دون التمعن فيما يقدمه لنا من أسلوب يحمل تقنيات فريدة ! ربما !

فإننا إذا تابعنا مطلع [سورة البقرة] لفت انتباهنا هذا الأمر:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

لقد بدأت الآيات الكريمة عرضا دراميا هادئا تصف لنا ذلك الكتاب وموقف المتقين منه وكيف يهتدون به وهم يؤمنون بالغيب ويؤدون صلواتهم راضين بما قسمه لهم من رزق ويؤمنون بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وما أنزل عليه وما أنزل على الرسل قبله ثم تصف حالهم بالهداية والفلاح الذي ينتظرهم في النهاية ثم فجأة تفاجئنا الآيات بالذين كفروا وسوء حالهم وعنادهم سواء أأنذروا أم لم ينذروا وتستمر في هذا العرض المرعب . فإذا تساءل أحدنا : إذا كانت الآيات من بدء السادسة قد خاضت هذا العرض عن سوء حال الكفار وامتدت في هذا العرض بمساحة أسلوبية متسعة فلماذا استُهِلَّتْ بتلك الدراما الناعمة في وصف حال المؤمنين ؟

إضافة لظاهرة التضاد التي يزخر بها القرآن فإنها تمثل ما أسميته في بدء مقالي هذا بـ “الاستدراج الدرامي”

والأشد عجبا أن مفسري القرآن لم يتلتفوا لها وهي من أشد الظواهر الأسلوبية في الأسلوب القرآني تأثيرا في المتلقي .

ربما يلتفت أحد لها الآن فيُعمل فيها البحث فهي ظاهرة جديرة بالدراسة وقد أجد في العمر بقية فأفرد لها بحثا خاصا .

لقد أدهشني نص للشاعر الدكتور (محروس بريك) وجدته على صفحته بالفيس يقول فيه:

منحتُها دموعي الشُّرَّدا

وقلبيَ المسافرَ المجهدا

ونظرتي و الوجد قد شقني

شريدة ساهمة في المدى

وضحكتي بين رفاق الدجى

أضحكها لطيفها إن بدا

وصمتي الخجول في وحدتي

وصرختي وسط احتدام الردى

وعندما ناديت : يا قاتلي

ما فتحت لي بابها الموصدا

صرخت والرماح في مهجتي

وذهب الصراخ مني سدى

عرفتُها غريرة في الهوى

هل تدرك الأزهار سر الندى؟

في واقع الأمر هي قصيدة نشرها الشاعر غير معنونة على صفحته , وهي لا تخلو من رمزية عالية إذ يمارس فيها الشاعر تكنيك الانفتاح الدلالي إذ يترك المتلقي وكما أخبرت في قراءة سابقة بحسب درجة وعيه في التلقي فقد يراها البعض غزلية عتابية في محبوبته وقد يراها البعض الآخر وطنية يرمز فيها للوطن وهكذا تنفتح على عدة أوجه دلالية.

ولكن هذا ليس هدفي من هذه القراءة لذلك فلن أخوض كثيرا في فك الشيفرة الرمزية في القصيدة .

– بدأ الشاعر بداية وديعة يعدد فيها ما منحه المحبوبة من عطايا معلنا أنه قد منحها دموعه الشاردة يبكيها في غربته بعدما أجهد قلبه من طول السفر وكيف أنه جعلها في غربته قِبْلة يوجه إليها وجدانه الذي يشقيه وتلك النظرة الشريدة الساهمة عبر المدى ، وحين يسهر مع رفاقه يسمرون ويضاحكهم تكون ضحكته لها وليست لهم بل يوجهها لها عبر الأفق ويصمت خجلا حين يكون وحيدا يتذكر حبه البريء ثم يصرخ حين يرى الردى يحوم حولها .

– هنا وتحديدا عند البيت الخامس بدأ عرض الدراما الرئيسة فكل ما فات كان استدراجا للمتلقي حتى يأخذه إلى دائرة التلقي الحقيقية فهذه المحبوبة ما قَدَّرت كل تلك التضحيات وحين ناداها أوصدت أبوابها جميعا ولم تجبه فظل يصرخ والرماح تطعن قلبه ولكن صراخه قد ذهب سدى .

– ثم يختتم قصيدته بحكمة رائعة قائلا : كنت أدرك منذ البداية أنها غريرة طائشة لن تقدر حبي لها ومع ذلك أراها زهرة تندَّت بالندى برغم أنها لم تدرك بعد أن هذا الندى – حبي – هو سر حياتها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى