حليمة تعدُّ الشاي

خالد جمعة | فلسطين

حليمةُ تُعِدُ الشايَ على نارِ الحطبِ لفارسٍ لا يأتي.
وحليمةُ وردةٌ غريبةٌ نبتَتْ في شفةِ ناي، زينتُها ابتسامةٌ يطلُعُ منها الصُّبحُ، وقليلٌ من الحنّاء على يديها تأخذُ شكلَ فَرَسٍ مرسومةٍ بيدِ طفلٍ لا يجيدُ الرسمَ، وعِطرُها نعناعُ حديقتِها التي لم تضمرْ في جهنّمِ الصيفِ، يشتبكُ دائماً مع ذيلِ ثوبِها فتصيرُ الرائحةُ اسمَها ويصيرُ الظلُّ رسولَ قدومِها.
اختلفَ الرُّواةُ في ميلادِها، ولم تقُلْ شيئاً عن وَحْدَتِها، أهلُها سكّانُ شجرةِ الكينا أمامَ البيتِ وقطّةٌ تشبهُ الحريَّةَ بلونٍ ناريٍّ مخيفٍ ولا يُقاوَمُ، ناداها كلُّ ولدٍ: أمي، وناداها كلُّ رجلٍ: حبيبتي، وحلُمَتْ بِها كلُّ عشبةٍ تماماً كما تحلُمُ بالماءِ عندَ العصرِ في طقسٍ لا توازنَ فيه، وعلى غيرِ ما يشاعُ من لجوءِ الطيورِ إلى أعشاشِها حينَ تذهبُ الشمسُ إلى موتِها اليومي، كانت العصافيرُ تجتمعُ حولَها لتسمعَ حكاياتِ عينيها قبلَ أن تنام.
أعطَتْ للطبيعةِ أسماءها، فقبلُها لم يكُنْ بحرٌ ولا سماءٌ ولا زرعٌ ولا مطرْ، كانت تُعرَفُ بالإشارةِ، فأعطتْها حليمةُ اللُغةَ هديَّةً في عيدِ ميلادِ الأرضِ حينَ فتّحَتْ عينيها، والأرضُ مثلَ فِراخِ الطَّيرِ، تتبعُ من تراهُ حين تبصرُ نفسَها للمرَّةِ الأولى، وحليمةُ كانتْ قبلَ ميلادِ الصوتِ وقبلِ طفولةِ الأزمنة.
أشارَتْ بيديها في رقصةٍ فريدةٍ لم يقلِّدْها أحَدْ، فتحرَّكَ الموجُ وطارت السُّنُوْنُواتُ وتحدَّدَت الجهاتُ وفكَّرَ النحلُ لأولِ مرّةٍ بالعسل، تفجَّرَتِ الريحُ وسَقَطَ المطرُ وخرجَتْ فاكِهةٌ في غيرِ موسِمِها، وبكتْ لحظةً فتكوَّنَ مِلحُ البِحار.
حليمةُ تُعِدُّ الشايَ لفارسٍ لا يأتي
وحليمةُ أكبرُ من فكرةِ البلادْ، وأوسعُ من حُلُمْ، وأكثرُ خضرةً من فكرةِ الصبايا عن الحبِّ، وأقلُّ انتشاراً بينَ العارفينْ، حليمةُ انبهارُ القمحِ بصورتِهِ في الرغيفْ، هي حنانُ الضِّرعِ بالحليبِ ودليلُ الدُّوريِّ إلى المكانِ اللائقِ بعشِّهِ وهي اختمارُ كلِّ فكرةٍ في رأسِ مبدِعِها.
حليمةُ، وفيما الشايُ ينضُجُ كترتيباتِ عُرسِ فجرٍ على شمسِهِ، لم تكُنْ تكبُرُ، لم تعرِفْ بياضَ الشيبِ، ولم تراوِدها تجعيدةٌ واحِدةٌ في جِلدِها الذي جاءَ من خارجِ اللونِ، بُخارُ الشايِ يصعدُ مُدُناً، ورائحةُ البرتُقالِ المتحرِّرَةِ من الحطبِ ترسمُ حدودَ العوالمِ فيما ثوبُها يقرأُ الغيبَ غرزةً غرزةً.
حليمةُ ما زالتْ تُعِدُّ الشايَ
وتُنضِجُ قلبَها بصبرٍ للذي لم يأتِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى