على بساط أخضر

منى النجم | العراق

في جنة نائية جنوب البصرة تدعى “الفاو” ترتادها النوارس وتمتزج مع أصواتها أبواق السفن القادمة الى فنارات الجمال والحب والأخضرار.

كنت الوافدة الأولى من الأخوات لذلك حاروا باسمي وتلكأوا  طويلا؛ فقالت أحداهن: سموها (سنابل) ولكنهم أحجموا عن ذلك كوني سمراء حنطية كتراب الجنوب المالح وذات ملامح لا تعرف دربا للون السنبلي الذهبيّ

ولم تطل حيرتهم إذ إن أمي مغرمة بمدينتها المتاخمة لدولة الكويت وتتابع إذاعتها باستمرار اهتدت لإسم على عجل؛ فهناك برنامج تدأب على سماعه تقدمه المذيعة القديرة منى طالب تلك الفتاة السمراء العذبة الصوت والساحرة النغمات وكأنها تحمل طيبة الكون في تهجدات صوتها وقد تركت انطباعا طيبا في نفوس من يستمع لها ليليا، حتى أنا في العشرينيات من عمري أدركت برنامجها المخملي (بگايا الليل) لأدمن صوتها الرائع كل مساء وهي تقرأ بصوت عذب ساحر وممتع

ياليل طشني الدهر طشت خرز مو محسوب

 واشعل جفوفي شمع وهيس اجفوفي اتموع

بس انا طشني الدهر لو طش جثيره اگلوب

باقي لحد الفجر اطوي الليالي ادموع

ياليل لفني بعباتك لفة محبين

واحجيلي كل القصص وشكالوا الحلوين

ياليل لفني السهر شبعد السهر ياليل

مو عمري كله كضه وأنباك مني الحيل.

وظلت صورة الفاو الحبيب في مخيلتي مطبوعة على شغاف قلبي، وكيف أنسى جنة الله على أرضه  فالمياه الهادرة والنخيل الساحرة والشمس والبحر ترسم لوحة من ألق لا يغيب، وجمال لا يضمحل، وأصيل يأخذك لمكامن الحنين حيث ينبجس الطهر سجية وأريحية، وباحة دار جدي تمتلأ بالسمّار والزوار لنحتسي شاي العصاري مع بريد (نوع من انواع الخبز) الفرن المجاور.

أو الشاي والكعك، أو تلك الرقائق  المحلاة بالسكر والدارسين والمسماة بـ( القرابيچ).

بعدها نَفَر من الدار الذي هو عبارة عن جنينة جميلة، البساتين تمتلأ بالسواقي وعلى أطراف السواقي النخيل السامقة، تمنحنا الحلاوة والزاد المشبع عافية ورضا.

هكذا كنّا قبيل الحرب بشهور نستيقظ في البكور لنستقبل الشمس الحارقة بحب غريب ترك بصماته على أنفسنا حتى اصطبغت سحناتنا بلون سمار داكن، ونحن نلاعب موجات الساحل القريب بلا تعب حد الغرق، وما إن تودعنا الشمس ساحبة تلابيبها الذهبية الساخنة حتى تفوح رائحة الأرض المبللة بالندى، حيث الهواء الشرقي كنار السموم محملا برطوبة الخليج تملأ مسارات الروح

فنعكف جالسين نعّد السفن القادمة إلى الميناء محملة بالبهارات والحنّاء والكثير من الخيرات

لتغرس في نفسي شعور السكون الذي مازال يسكنني كلما حل المساءن تصل مرساها فتطفأ ضوئها ليشتعل داخلي ضوء الحنين. ويظل يصهر روحي وقلبي حتى لحظة كتابة هذه السطور؛ صوتها الأخير لتجثم هناك منتظرة فرصة أخرى للرحيل،، الرحيل الذي وسم عمري بالفناء فمنذ رحلتي تلك نهاية السبعينيات إلى جنتها لم أعاود رؤية تلك الحيثيات المحببة والمشاوير المعتادة . إذ اندلعت الحرب لتشكل حاجزا بيني وبينها لسنين طوال حتى غاب النورس ورست السفن إلى القاع وإلى الأبد، وهاجر سمك الصبور والزبيدي ماءها، وماتت النخيل وهي واقفة ومتحدية شظايا الكراهية، ولم أعد أشم رائحة الحنّاء بعدها لينبعث في الذاكرة شجن لم تخمد نيرانه ولن تخمد ما حييت.

حزنا وألما وآسفا على جنة لا تضاهيها جنة عدن جمالا وكمالا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى