الطّفل والحضن المنزلي في أزمة كورونا!!

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوججام | الجزائر – غرداية

حرم الأطفال  من تشغيل طاقاتهم  العقليّة والنّفسيّة في الفضاءات التي اعتادوها: المنزل، المدرسة، وسط مؤسّسات وجمعيّات ومراكز.. والأماكن المفتوحة: السّاحات، الحدائق،  المنتزهات،  الملاعب، الشّوارع.. التي كانت تجمعهم فيها مع أصدقاء وإخوان ومعلّمين وموجّهين ومرشدين ورؤساء.. وكانوا ينفّذون برامج معيّنة، ويطبّقون مناهج محدّدة، ويقدّمون أنشطة مختلفة..

كلّ هذه الممارسات  توقّفت، وأجّلت إلى أجل غير مسمّى، وأخّرت إلى مواعيد غير معروفة.. هذا الحرمان وهذا التّعطيل لطاقات الأطفال، وهذا التّأجيل لبرامجهم.. يؤثّر فيهم تأثيرًا  كبيرًا.. وأشدّ هذه التّأثيرات وأشقّها عليهم تغيّر وتيرة حياتهم، وتبدّل أنماط تعاملاتهم، وانحسار مجالات نشاطهم وتحرّكاتهم وتفريغ طاقاتهم، وتقديم إبداعاتهم.. إذ تصبح منفّذة  في حيّز محدود وضيّق، هو فضاء المنزل.. هذا الانحسار يولّد في الأطفال  الضّيق النّفسي، والتّوتّر وعدم الرّاحة والرّضا بما هم مجبرون على التّكيّف معه..

 في هذه الوضعيّة وفي هذه الحال يكون دور الأوليّاء كبيرًا في تعويد الأطفال على الوضع الجديد، وتوفير الأجواء المناسبة لدفع القلق النّفسي والضّيق اللّذين يتولّدان عندهم نتيجة تغيّر نمط حياتهم. لذا يجب أن يتوفّر  ما يعوّض لهم ما حرموا منه؛ بسبب إجبارهم على البقاء في المنازل، لتجنّب الأخطار والأضرار التي ينتجها الانتشار في الأماكن العامّة، بفعل تفشّي وباء “ كورونا”، والعدوى التي تنتقل بين النّاس بسبب الاختلاط..

   لهذه العوامل يأتي  دور الأوليّاء في تعويض هذا الحرمان بما يوجدونه في المنزل من وسائل وبرامج ومشروعات، تفسح  المجال للإبداع، وتمنح الفرصة للقيام ببعض الأعمال التي ألفوا القيام بها في الظّروف العاديّة، تكون تعويضًا لـما ضاع منهم ، واستبدال سبل تشغيل عقولهم، التي حرمت من تقديم ما كانوا يمارسونه في الأماكن والفضاءات التي كانت متاحة لهم قبل حجزهم في حجر البيت، ووضعهم في أحضان الـمنازل, يدورون في فلك محدود، ومساحة ضيّقة، ويعيشون يوميّات متكرّرة، ويقومون بممارسات قد لا ترضي طموحهم، وتلبّي رغباتهم، وتنسجم مع طاقاتهم، وتستجيب لـقدراتهم..لذا قد يعيشون أكدارًا نفسيّة وخمولا جسميًّا..

 ما يقوم به الأوليّاء من أعمال إيجابيّة في هذا الظّرف الاستثائي المفاجئ لفكّ الحصار النّفسي عن الآطفال..يعين على تفريغ الطّاقات المكدّسة في أجسادهم، وإخراج ما في داخل قلوبهم من حسرات؛ نتيجة  الحرمان ممّا اعتادوه في يوميّاتهم العاديّة..

إذن، إنّ المخرج من هذا الوضع غير الملائم للأطفال  والمنقذ لهم،  هم أوليّاء الأمور في الـمنازل، بما يقومون به من جهود ومبادرات لكسر هذا الرّوتين القاتل، وتعويض  الحرمان، وتوجيه الحياة الجديدة نحو الأجدى وفي إيجابيّة تريح الأطفال وتفيدهم في عقولهم وقلوبهم وأجسامهم. وتبدلهم ما يعوّض ما فقدوه في ظلّ قرار حظر الخروج من الـمنازل، أو الحجر الجزئي، أو القبوع في الحضن المنزلي:

  أوّلا: توفير ما يقضي به الأطفال أوقاتهم في المنزل؛ من ألعاب تربويّة وتعليميّة وترفيهيّة.. فيتعلّمون  ويستفيدون ويستمتعون ويبدعون ويبتكرون..

ثانيًّا:  استغلال الفرصة للجلوس مع الأطفال  في البيت ومشاركتهم ألعابهم وإبداعاتهم  وتشجيعهم وتوجيههم.

ثالثًا: عقد لقاءات أسريّة حميميّة للتّوجيه والإرشاد والحوار والمناقشة.. وأخرى للمذاكرة ومتابعة سير التّعليم ومراقبة نتائج التّحصيل الدّراسي.. وغيرها في سرد حكايات وقصص في التّاريخ والتّريبّة والتّوجيه والتّفكير الإبداعي..؛ قصص عن سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وعن الرّجال الكبار الذين صنعوا التّاريخ عبر الحقب، وأخرى عن حياة الأسرة والمجتمع والوطن.. وحكايات ترسّخ المقوّمات والأخلاق والفضائل وقيم الرّجولة والأصالة والمروءة والشّهامة.. وأخرى يكون فيها الخبال المعين على تفتيق المواهب والتّعمّق في النّظر إلى الأشياء، والتّطلّع إلى المستقبل.. هذه القصص  تغرس في الأطفال الإرادة والطّموح والرّغبة في تقليد الكبراء، والحرص على اكتساب مهارات، تبني فيهم شخصيّاتهم، التي تعينهم على التّسلّح بما يساعدهم على السّير في الحياة بمقوّمات الرّجال الذين يعمرون الأرض بالخير وبما ينفع النّاس.. الوصول إلى هذه الأهداف منوط بمهارات أوليّاء الأمور وبراعتهم في توجيه الأطفال توجيهًا حسنًا بوسيلة الحكاية والقراءة الموجّهة      

رابعًا: توفير كتب للمطالعة ، وهي ضروريّة لبناء شخصيّات الأطفال. ويجب أن تكون متنوّعة: بين كتب أدبيّة وعلميّة وما يخصّ الحصيلة المعرفيّة والثّقافة العامّة وتعلّم اللّغات..

بهذه العناية والرّعاية والمرافقة والمراقبة..يحصل الأوليّاء على فوائد جمّة مهمّة، منها:

1 ـــــ  يدفعون  عن الأطفال الملل والسّأم، ويوفّرون لهم الأجواء التي كانوا يستظلّون بها قبل حلول جائحة “كورونا” في أوساطهم، فحرمتهم من النّشاط في الأماكن والفضاءات والبيئات التي ألفوها..

2 ــــــ  يدرّبونهم على استغلال حضن المنزل في الاستفادة وملء الوقت فيه بما ينفع، في سائر أيّامهم . هذه التّجربة  بهذا النّشاط في هذه الأيّام: أيّام الحضن المنزلي ( الحجر المنزلي)، تمنح لهم الفرصة للاستفادة في هذا المجال.

3 ــــ ينتشلون الأطفال من الوسائل التي  تدمّر حياتهم وتقضي على مواهبهم، وتبعدهم عن الإبداع الذّاتي.. كالألعاب الإلكترونيّة، والألعاب الخياليّة التي قد لا تنسجم مع قيم مجتمعاتهم ومقوّماتهم. هذا المطلب ينشد  البديل في نشاط  الأوليّاء  وفي الجلوس معهم، وفي توفير ما يحقّق طموحهم ويلبّي رغباتهم. كما سردناه سابقًا.

4 ـــــ يتدرّب الأوليّاء على طرق التّعامل مع أبنائهم، والجلوس إليهم، ووضعهم في خطط برامحهم اليوميّة، بعد ما كانوا يهملون هذه المنهجيّة، أي هم في هذا الحجر المنزلي والصّحّي والحضن المنزلي.. يدخلون تربّصات للتّدرّب على طرق التّعامل مع الأبناء في المنزل.. كما تكون هذه الفرصة مناسبة للقيام بواجباتهم نحو أبنائهم داخل منازلهم.

فوائد كثيرة يجنيها الجميع من هذا الحضن المنزلي: الأطفال والأولياء.. وينتفع بها من حوّل محنة ” كورونا ” إلى منحة، ومن  استغلّ أزمة الوباء لينفخ في النّفس همّة؛ فينهض ليصحّح أخطاءه في ميدان التّربيّة، ويعيد علاقاته مع أهل بيته  وأبنائِه، ويعرف واجباته الحقيقيّة في المنزل.. والأبناء يتعلّمون ويَنْشَؤُون التّنشئة السّليمة البعيدة عن التّوجيه غير الصّحيح، ويتدرّبون على الإبداع، ويتعلّمون بطريقة التّكوين الذّاتي..

                                            الجزائر  يوم  الثّلاثاء:  27   من  شعبان   1441ه

                                                                    21   من  أفريل     2020م

 

     

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى