كرتنا الأرضية تقاوم عزلتها

عبد الرزّاق الربيعي | شاعر ومسرحي وكاتب صحفي يقيم في مسقط

إذا يمكن اعتبار أنّ أكبر تجمع بشري بوقت واحد تحقّق أمام شاشات التلفاز، لتسعين دقيقة، أوأكثر، في المباراة النهائية لكأس العالم بكرة القدم، وآخرها التي أقيمت في روسيا 2018 ، وقد بلغ 1.12مليار مشاهد من أنحاء العالم كما ذكر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وفازت بها فرنسا، على حساب كرواتيا، فإن “كورونا” ضرب رقما قياسيّا في لملمة شتات بني آدم في بقاع المعمورة، البالغ عددهم 7.75 مليار نسمة، وأخرجها من الأماكن العامّة، والساحات، والشوارع، والمؤسسات، والنوادي، والمقاهي، والمطاعم، والمحلّات، وأجلسها في بيوتها، لوقت غير محدّد منذ أسابيع، وسيستمرّ إلى إشعار آخر !!

وهذا يكشف لنا كم هو جبار هذا الفايروس الذي لايرى بالعين المجرّدة!!

ولكنّ الإنسان، سيّد الأرض، ” إنّي جاعل في الأرض خليفة”(البقرة:30) يظلّ أقوى، وأكثر جبروتا منه، فلم يقف مكتوف الأيدي إزاء هذا الوضع الاستثنائي، والامتحان العسير الذي جد نفسه يسبح في دوّامته، إذ تتواصل جهود العلماء في إنقاذ البشريّة من هذا العدو الذي جعل الأخضر يباع بسعر اليابس!!

وحتّى يتحقّق ذلك الإنجاز البشري الذي سيسعد مليارات البشر، تسعى شعوب العالم إلى كسر جدران عزلتها، مستنهضة قواها، واقفة في وجهه بصلابة، وما الصور، والفيديوات التي تصلنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتُرينا كيف تمدّ الجموع أعناقها من النوافذ، في أوروبا، ملوّحين لبعضهم البعض، مطلقين الصفير، ليشعر الآخر في البنايات المجاورة أنّهم بخير، يبتسمون، ويمارسون حياتهم الطبيعيّة داخل شرانق الذات، والعزلة الإجباريّة، ويحيّون الطواقم الطبّيّة ، فرسان الزمن الكوروني، الباسلين، ويطلقون أناشيد جماعيّة ترفع روح الحماس فيها، وهذه الأغاني هي أقرب ما تكون إلى أغاني الحصاد الجماعيّة التي يؤدّيها المزارعون خلال عملية الحصاد، وأغاني العمل المعروفة في دول العالم كلّها، بهدف زيادة الكفاءة في الانتاج،وطرد الملل، والتعب، من أبرزها أغاني العمل اليابانية، وأغاني عمال المناجم، وحتى المحكومين في السجون يؤدون عددا من الأغاني خلال اسناد بعض الأعمال لهم من قبل سجانيهم، أمّا أغاني البحر، فهي معروفة في تاريخ المنطقة الغنائي، وقد وثقت علاقة الإنسان الذي يمضي أيّاما في رحلات الصيد والغوص بحثا عن اللؤلؤ  بالبحر، والهدف منها دفع الخوف، والوحشة عن البحّارة، ورفع وتيرة الحماس، واشتهرت تلك الأغاني، وأدرجت ضمن تراثها الشعبي لمنطقة الخليج العربي، إذ تناقلت تلك الأغاني الأجيال المتعاقبة، وكلنا نتذكر أغنية شادي الخليج” هانحن عدنا، ننشد الهولو على ظهر السفينة”، وكثيرا ما تتردّد في مسامعنا:

“توب توب يابحر

ماتخاف من الله يابحر”

وكلّ تلك الأغاني تعبّر عن الروح الجماعيّة، وتذكيها، وقد ابتكرها الإنسان لعدّة أهداف يقف في مقدّمتها توفير الدعم المعنوي لروح الفرد، فتمزجه بروح الجماعة، وهذا مانجد له شبيها في الوقت الراهن، وقد قرأت مؤخّرا تقريرا بثّته موقع”سكاى نيوز عربية” الإخباري، حول إحياء الشعب الدنماركى أحد التقاليد الغنائيّة التي تندرج ضمن الغناء المشترك، وهذا التقليد يظهر فى أوقات الأزمات، ويذكر التقرير أنّه يعود إلى الحرب العالمية الثانية، وظهر تحديدا فى مدينة ألبورج فى 4 يوليو 1940، بمشاركة ما يقرب من 1500 شخص بعد ذلك “انتشرت ثقافة (أغنية المجتمع)، أوما يسمّى الغناء المشترك السريع، مما أظهر الوحدة، والشعور الوطنى ضد الاحتلال النازي، ثمّ توسّعت لتشمل مئات الآلاف فى مختلف أنحاء البلاد، ومؤخّرا أطلق التلفزيون الدنماركى، دعوة حثّ من خلالها المواطنين على إحياء موروث “غناء المجتمع”، فاستجاب الدينماركيون، بما فيهم رئيسة الوزارء مته فريدريكسن، إذ أدّت من مطبخها برفقة ابنتها أغنية محلّيّة، عندما تمّ عرض البرنامج على المحطة الدنماركية”

إنّ إحياء الأغاني الجماعيّة هو نوع من محاولة كسرالعزلة الفرديّة الإجباريّة، التي فرضها الفايروس، فالتباعد الاجتماعي لا يمنع الحناجر من أن ترفع عقيرتها بالغناء من أماكن متفرّقة لتنشد أغنية واحدة يقاوم من خلالها انسان الكرة الأرضية الحصار المفروض عليه!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى