وقفات مع القرآن في رمضان (3)

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم في الإسكندرية

ظاهرة الاستدراج الدرامي في القرآن

“الاستدراج الدرامي” يعرفه جيدًا السينمائيون لأنه ركيزة من ركائز عُنْصُرَي التشويق والصدمة ؛ إذ يعتبره السينمائيون من أهم عوامل نجاح العرض السينمائي ، حيث نجد الدراما تبدأ هادئة وديعة تأخذنا إلى عالم مغاير تمامًا لما يريد صاحب العرض مفاجأتنا به ثم في لحظة فارقة يقوم باستدارة فنية مفاجئة ليصدم المتلقي بالحدث المفاجئ الذي يريد عرضه داخل دائرته الدرامية دون سابقة إنذار درامي . ومن خلال تلك الصدمة الدهشة يحفر في ذاكرة المتلقي الوجدانية قبل الذهنية صورة الحدث الحقيقي المراد عرضه .

والعجيب حقا أن تلك الظاهرة الدرامية في الأسلوب العربي ظاهرة قرآنية بامتياز في الأسلوب القرآني بامتياز .

فإننا إذا تابعنا مطلع [سورة البقرة] لفت انتباهنا هذا الأمر :

{ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}

لقد بدأت الآيات الكريمة عرضًا دراميًّا هادئًا تصف لنا ذلك الكتاب وموقف المتقين منه وكيف يهتدون به وهم يؤمنون بالغيب ويؤدون صلواتهم راضين بما قسمه لهم من رزق ويؤمنون بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وما أنزل عليه وما أنزل على الرسل قبله ثم تصف حالهم بالهداية والفلاح الذي ينتظرهم في النهاية … ثم فجأة تَفْجَأُنَا الآيات بالذين كفروا وسوء حالهم وعنادهم سواء أأنذروا أم لم يُنْذَرُوا وتستمر في هذا العرض المرعب المخيف الذي سيعانونه . فإذا تساءل أحدنا : إذا كانت الآيات من بدء السادسة قد خاضت هذا العرض عن سوء حال الكفار وامتدت في هذا العرض بمساحة أسلوبية متسعة فلماذا استُهِلَّتْ بتلك الدراما الناعمة في وصف حال المؤمنين ؟

إضافة لظاهرة التضاد التي يزخر بها القرآن فإنها تمثل ما أسميه بـ “الاستدراج الدرامي” في الأسلوب السَّردي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى