في إعجاز القرآن (١)

د. زياد العوف |سورية

بدا لي أنّه من المناسب في شهر رمضان المبارك هذا أنْ أخصّ مسألة إعجاز القرآن ببحث تاريخي بلاغي موجز أسلّط فيه الضوء على هذا الموضوع القديم- الجديد بما يسمح به هذا الفضاء الاجتماعيّ المترامي الأطراف، مع اعتماد الموضوعية العلمية بما تتيحه الطبيعة البشرية.
لقد واكبتْ مسألة إعجاز القرآن الدينَ الإسلاميّ منذ فجر الدعوة إلى يومنا هذا.
فما المقصود بإعجاز القرآن، ولِمَ كان القرآن معجزاً، وأين يتجلّى هذا الإعجاز، وكيف تتبدّى وجوهه وتظهر؟
لا أزعم أنّني بصدد الإجابة عن كلّ هذه التساؤلات، ولا عن بعضها.
كلّ ما في الأمر أنّني سأطرح بعض الآراء والأفكار والإجابات التي تعرض لي في هذا الموضوع، وأنا مدركٌ مسبقاً ما يحفّ بمثل هذه المحاولة من مخاطرَ جمّةٍ؛ وهذا ناجم، ليس عن دقّة الموضوع وحساسيّته حسبُ، وهذا السبب كافٍ وحدَه لأنْ يُحجمَ المرء عن الخوض فيه، وإنّما لضيق مقامنا هذا عن احتمال البحث المعمّق في مثل هذه المسألة.
إنطلاقاً من ذلك سأحاول قدر الإمكان اختيار أوضح المسالك، وأسهل المداخل، وأيسر السّبُل المؤدّية إلى معالجة عناصر هذا الموضوع.
سأبدأ مباشرة بالسؤال الجوهريّ القائل: ما الإعجاز؟
الإعجاز لغةً- كما يقول المعجَم- هو الإيقاع في العجْز. أمّا الإعجاز اصطلاحاً فهو: الحجّة التي يمثّلها القرآن لتحدّي المشركين وإعجازهم.
وعلى ذلك فإنّ القرآن هو معجزة النبيّ التي تحدّى بها خصومه وأعجزهم، أمّا تاء التأنيث في” المعجزة” فهي للمبالغة.
أين يكمن إذاً هذا الإعجاز القرآنيّ، وكيف يعلن عن نفسه؟
للإجابة على ذلك أدعوكم لتأمّل الآيتين الآتيتين:
-” قل لَئن اجتمعتْ الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.” سورة الإسراء،الآية (٨٨)

-” وإنْ كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله، إنْ كنتم صادقين. فإنْ لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، أُعِدّتْ للكافرين.”
سورة البقرة، الآية(٢٤)

إنّ ما يستوجب التدقيق في الآيتين السابقتين أنّهما تعلنان الإعجاز، لكنّهما لا تنشئانه؛ أي أنّهما تلقيان بالحجّة في وجوه المعاندين من المشركين دون تبيان ماهيّة وطبيعة هذه الحجّة المعجزة.
القرآن إذاً يعلن عن نفسه بوصفه معجزةً لا تقبل الأخذ والردّ، ولا النقاش والجدل، وعلى مَن يرى غير ذلك-يقول القرآن- أنْ يأتي بمثله أو بسورة من مثله.
يقدّم القرآن نفسه ، إذاً، معجزةً، وعلى المتلقين لآياته إمّا أنْ يذعنوا لهذا التّحدّي بتصديقهم للنبيّ، ولِما أتاه من الوحي، وإمّا أن يواجهوا التّحدّي فيرتابوا بالقرآن وآياته وإعجازه، ويقدّموا ما يطعن بصحّة الوحي، ويُنكر دعوى الإعجاز.
وهكذا كان: فقد آمن قومٌ وجحد آخرون.
لكنّ مسألة إعجاز القرآن ظلّت مطروحة على الجميع. فكيف كان ذلك؟
لقد مثّل القرآن للعرب في ” العصر الجاهلي” تحدّياً لغوياً، واستفزازاً بيانياً أصابهم بالحيرة والعجز، ما جعلهم في كلّ وادٍ يهيمون؛ فأخذوا يرمون صاحب الرسالة بالسحر طوراً، وبالشعر، تارةً، وبالجنون تارةً أخرى، وقد حكى القرآن ذلك عنهم في مواضع كثيرة، نذكر منها:
-“إنْ هذا إلّا سحر يُؤثَر”
-“بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه،بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أُرسلَ الأوّلون”
-“وقالوا يا أيّها الذي نُزِّلَ عليه الذّكر، إنّك لمجنون”.
في هذا السياق ذاته، يروي لنا التاريخ خبر ( الوليد بن المغيرة) وهو سيّد من سادات قريش المعدودين، وفصحائها المرموقين، وما اعتراه من دهشة وحيرة وعجز لدى إصغائه لبعض آيات القرآن يتلوها النبي الموحى إليه، ويبيّن لنا التاريخ كيف حاول سادة قريش أنّ يحملوا الوليد- هذا- على أنْ يرمي النبي بالكهانة أو الجنون أو السحر أو الشعر. لكنّ الوليد بن المغيرة يردّ ذلك كلّه عليهم حيث يقول:
“إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ أصله لعذْق- النخلة بحملها- وإنّ فرعه لَجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عُرِفَ أنّه باطل، وإنّ أقرب القول فيه لأنْ تقولوا: ساحر جاء بقول يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته”
لقد بلغتْ الحيرة والدهشة والعجز عند المشركين من عرب الجاهلية مبلغاً دفعهم إلى تعطيل مَلَكاتهم العقليّة، والتماس الردّ على تحدّي القرآن وإعجازه باصطناع الشّغبِ والتشويش والّلغو؛ يقول القرآن في ذلك:
-“وقال الذين كفروا: لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه، لعلّكم تغلبون”. ويبقى الإعجاز قائماً، ويظلّ التّحدّي مستمرّاً، والمشركون من عرب الجاهلية في حيرتهم وعجزهم يتخبّطون، إلى أنْ قالوا في حكاية القرآن عنهم:
-“لو نشاء لقلنا مثل هذا، إنْ هذا إلّا أساطير الأوّلين”.
واقع الأمر أنّهم لم يجدوا ما يقولون، فأعلنوا إفلاسهم واحتكموا إلى السيف، يحاولون بقوّة السلاح، تصفية حسابهم مع النبي والقرآن، فكانت هزيمتهم في ساحة الحرب تأكيداً دامغاً لهزيمتهم في ميدان الحجّة والبرهان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى