تعدد الأصوات في قصيدة ” نحن الوباء وأنت يا ملك الملوك لنا الدواء “

رائد محمد الحواري | فلسطين

في هذه القصدة يستخدم الشاعر “كميل أبو حنيش” أكثر من صوت، فيبدأ القصيدة مستخدما صيغة نحن، لكنها أقرب إلى رؤية الشاعر الشخصية، فهي تبدو لنا (أنا) المتكلم، لكنه يتعمد استخدم لفظ الجماعة “نحن” للتعميم، موضحا حال البشرية التي تواجه (طوفان الكورونا)، وقبل التقدم من القصيدة نوضح أن الشاعر يستخدم عنوان تراثي: “نحن الوباء وأنت يا ملك الملوك لنا الدواء” ونجد فيه (تضرع) الخاطئون لله، فالشاعر ينسب الوباء ل”نحن”، والشفاء/الدواء لملك الملوك/الله، وهذا الأمر استوجب وجود أكثر من صوت، صوت الخطاؤون، الذي يتعرفون بذنبهم:

“سَنُجَرِّبُ الآنَ التَّداوي بالوباءِ..

فَرُبَّما تأتي المَناعَةُ بالشُّعورِ.. و بالتَّأملِ.. بالحياءِ

لعلَّنا قدْ نرعوي عن غينا..

و نَكُفَّ عن هذا الهبوطِ..

فَكُلُّنا مَرضى الحضارةِ و الزُّحامِ..

و شأننا شأنُ النَّعامةِ و الرِّمالِ..

و لا نُبالي. لا يُثيرُ فُضُولَنا..

أيُّ انزلاقٍ في الوحولِ..

و دونَ أن نَتَعلَّمَ الإصغاءَ للأوجاعِ في أعماقِنا..

من قبلِ أن يجتاحَنا مَلِكُ البلاغَةِ ذا المُتَوَّجُ بالرؤوسِ..

يَمِدُّنا بدُروسِهِ..

أعمى يَسيرُ لِوَحدِهِ..

لا يفهمُ الطَبَقاتِ و الجيناتِ.

و البُلدان و الألوانِ..

يَختَرِقُ الحُدودَ..

قَدْ نَراهُ و لا يَرانا.

لا يَكَلُّ عنِ التقدُّمِ للأمامِ”

فالشاعر/نحن نتعرف بأننا اقترفنا الخطايا، وأن ما يجري لنا هو قصاص عادل من الله، لهذا يعتبر الوباء عدل سماوي، لهذا نجد استخدام “لعلنا، نكف” وإذا توقنا عند بداية المقاطع سنجدها متواصلة ومتكاملة وجاءت بوتيرة سريعة: “ونكف، فكلنا، وشأننا، ولا، ودون” وهذا يتماثل مع ارتفاع (طوفان الكورونا).

وإذا ما توقفنا عند الأفعال المستخدمة سنجدها مضارعة: “سنجرب، تأتي، نر، ونكف، نبالي، نتعلم، يجتاحنا، يمدنا، يسير، يفهم، يخترق، نراه، يرانا، يكل، التقدم” وهذه الأفعال تشير إلى حيوية واستمرارية (الطوفان)، وقبل الانتقال إلى القسم الثاني من القصيدة ننوه إلى أن هذا المقطع هو الأقصر في القصيدة، وهذا (القصر) يشير إلى أن الشاعر/نحن تعلمنا من (أخطائنا) فقد أقررنا بالذنب بعد أن جاءنا (غضب) الرب وبعد أن أرسل عليها (طوفان الكورونا).

المقطع الثاني جاء كتهاليل، تسابيح، تمجيد لله

 

“يا صاحِبَ التِّيجانِ يا مَلِكَ المُلوكِ.. و سَيِّدَ الدُّنيا..

و قَاهِرَ كُلَّ أرتالِ الجيوشِ

و حاملاتِ الطَّائراتِ

و قاهِرَ الآلاتِ و العِلمِ الحديثِ

فَقُلْ لنا: من يُمسِكُ الآن الزِّمامَ؟؟”

من هنا نجد فخامة الخطاب وعظمته “يا صاحب التيجان، يا ملك الملوك، وسيد الدنيا، وقاهر، قل لنا” فالمخاطب موجه إلى من هو أعلى من البشر، فكرة الخطاب تؤكد على أنه إله، فقد منح الشاعر صفات غير بشرية، “ملك الملوك، سيد الدنيا، وقاهر”.

يتقدم الشاعر أكثر من ماهية الإله، فيقدم مجموعة من التساؤلات/الأسئلة، أراد بها تدفع المتلقي ليتوقف أمام عظمة هذا الإله:

 

  • “يا ذا المُتَوَّجُ قِفْ قليلاً..

قُلْ لنا مَن أنتَ؟؟

كيْ نَعرِفَ هَويَّتَنا المَريضَةَ من مَراياكَ الصَّقيلَةَ

من بعدِ ما جَرَّدتنا من صَوتِنا و سِلاحِنا و كِسائِنا

و حَياتِنا و عُلومِنا وسَنائِنا

من مَالِنا و عَتادِنا و مَجيئِنا و ذَهابِنا

من فَخرِ ما صَنَعَتهُ أيدينا المُصابَةُ بالوباءِ

و فَرَضْتَ مَجدَ حُضورِكَ الطَّاغي عَلينا

مَن أنتَ كيْ تأتيْ و تَمنَعَنا مِنَ التِّجوالِ

و القفزِ السَّريعِ إلى الجِّهاتِ السِّتِ

و تُميطَ عن عَوراتِنا أسمالَها

حَوَّلتَنا بشراً صِغاراً تافهونَ..

و عاجزونَ..

ضَرَبتَ كلَّ غُرورَنا”

فرغم صيغة السؤال، إلا أن الإجابة محسومة بأن المراد به (طوفان) الإله، فالشاعر يستخدم صيغة سؤال، ليؤكد على معرفته/معرفتنا بالإجابة، وبهذا الخطاب يكون (طوفان) الإله قد أوصل الفكرة لنا، فكرة أن جبروتنا لم يعد قائما، أمام الله، أمام (طوفان) فما علينا إلى الاعتراف (بكفرنا) والتبوبة،الإيمان بالله القاهر والقادر.

وتأكيد على أننا، تبنا وآمنا بعد رأينا (الطوفان) استخدم الشاعر افعال ماضية: “جرتنا، وفرضت، حولتنا، ضربت” بعدها يسمعنا الإله صوته:

“أصغوا إليَّ فَكُلُّكُم عِندي سَواءُ

لا غَنيَّ و لا فَقيرَ

لا كَبيرَ و لا صَغيرَ

و لا زَعيمَ و لا خَفيرَ

و لا حُدودَ و لا جِهاتَ

كُلُّكُم عِندي سَواءُ

آتي إليكمُ كُلَّ قرنٍ أو يزيد

لكي أزاوِلَ مهنتي

من بعدِ أن تتعفَّنوا …

أنا من أجيءُ لكي أدوسَ غُرورَكُم

فَلتَهزِموني ما استَطَعتُم

أنتم غُبارٌ بائسونَ

لا تَملِكونَ من الحياةِ سوى اسمها

بل عاجِزونَ عن الحياةِ

قِفوا أمامي صاغرينَ

تَذَكَّروا أفعالَكُم

تَتَقاتَلونَ… تُدَمِرونَ.. و تَسلِبونَ..و تَنهَبونَ

تُلَوِّثونَ.. تُخَرِّبونَ..

حُروبُكم قد أزهَقَتْ أضعافَ ما حَصَدَتْ جُنودي..

و الجُّوعُ ..

داءُ القلبِ… داءُ الفقرِ

داءُ القمعِ.. داءُ القهرِ…

داءُ الظّلمِ

تَقتِل كلَّ يومٍ منكُم

أضعافَ أضعافَ

لما حَصَدَتْ جُنودي

و أصدقائي (المالتوسيين ) من أسيادِكم

لطالما ضرعوا

إليَّ لكي أجيء على الدَّوامِ

حتى يَظَلَّ وباءُهُم يسري على مرِّ العُصورِ

آتي لكي تتعلَّموا أنَّ الوباءَ ….بعصرِكم :

موتُ الضَّميرِ

أنَّ الوباءَ مُعَشعِشٌ برؤوسِكم و قُلوبِكم

و سِلاحِكم.. و غِذاءِكم.. و علومِكم

و قُصورِكم..آلاتِكم.. أموالِكم.. أسواقِكم

فَتأدِّبوا في حَضرَتي

و تَعَلَّموا فَنَّ التَّواضُعِ و الوِئامِ

و تَعلَّموا أنَّ الشُّذوذَ عن الطَّبيعةِ و الحياةِ

هو السُّقامُ”

كتأكيد على انتصاره، على إيصال الهدف/الغاية من (الطوفان) يخاطب الإله الناس حاسما ضعف الناس أمام جبروته، واللفت في خطاب الإله وجود أكثر من فكرة، أن الناس كلهم متساوين أمامه: “كلكم عندي سواء”، وأن (الطوفان) يأتي ليتعظ الناس منه: “أدوس غروركم”، وبه يتحدى الإله الناس: “فلتهزموني”، ويؤكد على ضعفهم وعلى استسلامهم: “لا تملكون من الحياة سوى اسمها” ويذكرهم بأن (الطوفان) لم يهلك قدر حروبهم وغيهم: “حروبكم قد أزهقت أضاف ما حصدت جنودي” وأختاما يؤكد الإله على أن الهدف/الغاية من (الطوفان) العبرة والاتعاظ والتوبة والتقرب إلى الإله.

بعد صوت الإله يأتي صوتنا نحن البشر:

“أهلاً و سهلاً فيكَ يا مَلِكَ البلاغَةِ و الكلامِ

أرفِقْ بنا يا سَيِّدي و تعالَ دوماً

كي نَكُفَّ عن الحروبِ

و كي تُعَلِّمَنا المُروءَةَ و السَّلامَ

ادنو قليلاً من حَضَارَتِنا المَريضَةَ

كي نُحِسَّ بِبَعضِنا”

فقد تعلمنا الدرس، وتبنا وعدنا إلى رشدنا، عدنا إليك أيها الإله: وتأكيد على توبتنا والإقرار بالذنب: “أرفق بنا” وليس هذا فحسب، بل تجدنا نريد أن يكون الإله حاضرا دائما وباستمرار: “نكف، تعلمنا، ادنو، نحس” فنحن البشر لا نتعلم من أخطائنا، لهذا يؤكد الشاعر على ضرورة وجود/قدوم الإله (الطوفان):

” فلا تَكُفّ عن المجيء

لكي نُحَدِّقَ في مَرايا ذاتِنا

و نرى الوباءَ يمورُ في أعماقِنا

فنَكفَّ عن صُنعِ الحروبِ.. و لو قليلاً

و نُخَصِصَ المالَ المُكَدَّسَ

للدَّواءِ و للغَذاءِ”

وبهذا النداء نكون قد آمنا بالإله و(بطوفانه) الذي يبقينا/يطهرنا/ينقينا من الخطيئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى