أدب

صداع وزكام ورحيل ونص فاض عن سرد “دال”

بقلم: عمر اليدري أفيلال | كاتب من المغرب

“وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنه فتوسعه بأنواع السقام”
“المتنبي”

استقللت الحافلة صوب تطوان، انزويت بعد امتلاء المقاعد ركابا في ركن تنبعث منه أصوات المحرك الذي لا يكف باهتزازه الكثيف عن إشعاري أني غير مرحب بي، قبضت هاتفي متصفحا ما استجد تخلصا من الصداع الذي يكوي رأسي منذ أمس، لم تكن تلك عادتي المألوفة في السير إلى الكلية، منذ وطأتها قدماي أول مرة، غالبا ما كنت أجد أمامي مسلكين اثنين أحلاهما مر؛ إما أن أمر إلى “الرينكون” أولا ثم منها أقبط سيارة أجرة إلى موقفها إزاء المدرسة العليا بمرتيل، أواصل الوجهة بعدها سيرا على الأقدام، أعده في الحقيقة تمرينا رياضيا، ومتنفسا صحيا، بعد التلوث الضجيجي والهوائي للمواصلات بروائحها الكريهة، متجولا ببصري في منظر المدينة العجيب، بأحيائها، وأزقتها، وأبنيتها المرصوصة، وسوقها الذي يذكرني ب”البلاصة” عندنا.

طول المسافة أو قصرها ما يحدد الأمر هو وتيرة مِشيتك ومن بصحبتك، فإذا آنسك أحد قد يذوب الزمن بتبادل أطراف الحديث فلا تفطَن إلا وقد أطلت عليك الكلية بزرقتها المهيبة مثل شفشاون، وغالبا ما تأخذ العملية وقتا إذا ما قارنتها بسيري وحيدا؛ لكنها تظل أحب المسالك إلي. وإما أن تشد الطريق من الفنيدق إلى تطوان، وهو خيار إن رجحته غاية في المشقة، لسير الحافلة المتهالكة -مثل الخردة- البطيء، استمرارها في إصدار روائح كريهة، انبعاث الدخان منها إن لم نتحدث عن الحرائق التي تحدث فيها أحيانا ويشتكي منهما الناس مرارا، في مثل هذا الفصل الشتوي لا تكاد تميز خارج الحافلة من داخلها، من تسريبها المستمر لمياه الأمطار، فلا يكون أمام الركاب من خيار إلا أن يكتظوا فيها مثل علب السردين.

وصلت إلى تطوان برفقة “سين”، زميلتي في الفصل، لا يختلف الجو ها هنا هذا اليوم عن نظيره عندنا، فالشمس مستقرة في كبد السماء، لا شيء يشي فيها باحتمال نزول المطر في هاته البقعة الساحرة التي قد يكون الإسبان من أطلقوا عليها “إيسو”، فبعد يومين أبرقت فأرعدت فيها السماء وأثلجت، وامتلأت فيها الوديان والآبار، وكشفت بعض الطرق عن مساوئها، يأتي هذا اليوم ليمحو أثر ذلك إلا ما كان من احتفاظ الأرض بما علق فيها من ماء.

ركبنا سيارة الأجرة، كنا نستطيع انتظار الحافلة لولا أمرين اثنين جالا في خاطرينا أنا و”سين”: كون الأولى استغرقت في السير مدة أطول من المعتاد؛ وقد نتأخر عن الحصة – وهو ما حدث بالفعل- فقد قضينا فيها ساعة ونيف، ما استنتجت ذلك في الواقع إلا بعد تفقدي الساعة لحظة وصولنا إلى الكلية في الحادية عشر إلا عشرة دقائق، أما الأمر الثاني خشيتنا من أن تلوذ الحافلة بالفرار؛ أمر مخز أليس كذلك؟ فما أكثر المرات التي ننتظرها في موقف سيارة الأجرة عبثا؛ فكرت في سر ذلك كثيرا، ثم خمنت ان توقفها بينما تصطف السيارات هناك أمر من شأنه أن يذكي صراعا خفيا بين سائقي القطاعين، سلوك يمكن ملاحظته بقليل من التأمل إذا ما التقط سمعك بعض أحاديثهما عن بعضهما، حتى إن الأمر ليقع بين السائقين من القطاع نفسه، وإذا أبيت إلا أن تستقل الحافلة ما عليك إلا أن تعود أدراجك قليلا إلى الموقف السابق متجاوزا العقبة في طريق “الرمانة” لتضمن الركوب.

ما ذكرت إلا مسلكين مع أنه ثمة مسلكا ثالثا مباشرا، أكثر ربحا للوقت، وأقل بذلا للمال، من الفنيدق إلى مرتيل؛ كنت أستعمله كثيرا أيام الإجازة؛ لكنه الآن لم يعد متوافرا في أغلب الوقت؛ استفسرت مرة معاون سائقي الحافلات عن غيابها المتكرر، يشغل وظيفة تدنو من وظيفة “كورطي” سائقي الأجرة، أجابني قائلا : “الطلبة لم يعودوا يستيقظون مبكرا” ثم أردف بقوله “لا يمكن أن تنطلق الحافلة ببضع ركاب، على الطلبة المتوجهين إليها أن يجتمعوا” ، لم أستسغ في الواقع تفسيره للأمر؛ لأنه كان لي تفسيرا آخر أحسبه أكثر منطقية إذا ما أخذنا بعين الحسبان، النظرة التي أضحى يُنظر بها إلى شواهد الإجازة الأساسية؛ حيث جردت من قيمتها التي اكتسبتها لسنين، بعد تفضيل الإجازات في التربية عليها، وتسقيف السن في مباراة التعليم الذي كان وجهة الكثيرين، إلى آخر ما هنالك؛ فلم سيدرس الطلبة ثلاث سنوات أو أكثر، بمحنها الكثيرة، ثم يجدون في الأخير أن الشهادة التي حصلوا عليها يمكن ألا تؤهلهم مستقبلا ليشغلوا المنصب الذي طمحوا إليه؟ هذا التفكير الذي غالبا ما يُتداول؛ لذلك تجد بعضهم قد فقدوا الأمل من الجامعة، أو لا يأتون إلا عند الامتحانات.

يخيم علينا في هاته الأثناء في سلك الماستر، شعور قوامه الحزن والإرباك ؛حزن بقرب انقضاء هاته الفترة التكوينية التي أضافت إلى حصيلتنا الكثير، تفاعلا مع مؤطريها وطلبتها ؛ فلم تبق سوى أيام قليلة على إجراء الامتحانات، بعد سلسلة من العروض التي لم يُنتهَ من بعضها، ليتفرق الجمع بعد إلى مساكنهم ، تفرغا لمشاريعهم البحثية، بعد أن كونا صداقات متينة وعلاقات طيبة صرنا فيها أسرة صغيرة يشد بعضها بعضا، وإرباك بتأخر مد الطلبة بمنحهم الجامعية…؛ فقد بلغ (زاي) أن المنح لن تصرف ما لم تدرج نقط الفصل السابق، شعور لم أذقه، أو ذقته بكيفية مختلفة، لعدم استفادتي منها في سلكي الإجازة والماستر معا، مع فئة كبيرة من طلبة المضيق والفنيدق إذاك دون وجه حق، فلم أعهد انتظار صرفها، أو الاصطفاف أمام البريد لقبضها.

في اللحظة التي أكتب فيها الآن أجدني ما زلت ممتلئا بالنص السردي لصديقي الأديب “دال”، قلت عنه “دالا” مع اعتقادي أنه ربما قد تكون المرة الأولى التي يخاطبه فيها أحد بصيغته الرمزية التي عودنا عليها في خطابه إلى أصدقائه ورفقائه في السكن؛ ولأني ما زلت ممتلئا بسرده انقدحت في ذهني فكرة النسج على منواله في الكتابة، بدءا من الاقتباس إلى الترميز، وانطلاقه من أحداث متفرقة، تضمها وحدة عضوية، في فترات زمنية وبقع مكانية معينة، بكيفية يكسر فيها أفق انتظار القارئ، ما يحقق متعته، واتساع المسافة الجمالية إلى غير ذلك مما ميز طريقته في التعبير، مع إبداء خصوصيتي في النص، ألم يقل “ميم” زميلي في الدراسة أيام الإجازة، ورفيق “دال” الحالي في السكن، في سياق الحديث عن طبيعة السرد بربطه بتجربة أديبنا “إن السرد حين يقوم في النفس ويملأ كل أبعادها، يظهِر للسارد في كل شيء عالما مستقلا جديرا بالعناية والتشكل” وهكذا كان معي.

وبينما أتحدث عن طريقته في الكتابة أجدني أتذكر تعرفي الأول عليه حينما كان يدرس بالماستر، حوالي خمس سنوات، في هذا الفضاء عبر حسابي السابق، قبل أن ألتقي به مباشرة على متن الحافلة، وهو يلتهم كتابا بالقراءة جريا على عادته التي مضى عليها كلما استقلها، عرفته حينها منكبا على مطالعة البيان والتبيين والحيوان والبخلاء وسائر كتب الجاحظ، التي يصح نسبها إليه والتي لا يصح، ثم مرورا بكتب التوحيدي وابن المقفع، وأبي العلاء المعري، وألف ليلة وليلة التي ما زال يهوى قراءتها، ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري، والأغاني للأصفهاني، ولسان العرب لابن منظور، والمقامات وكتب كيليطو والرافعي، وغيرها من الكتب التي تدرس الأدب القديم، إلى أن اكتشفت أنه يطالع بالموازاة مع ذلك الأدب الحديث عربيه وغربيه ،خاصة منه الأدب الروسي أمثال ما عند “تولستوي” وهمنغواي الذي كنت أحيانا ألاحظ فيه بعض ميله إليه، ودوستويفسكي، فيكون بذلك أسلوبه قد امتزج بأذواق الكتاب في أساليب تعبيرهم، يطبع ذلك كله بصمته، وأثره، وتجربته، وفرادته.

بعد صداع كثيف، مررت أمس بزكام حاد، تحسسا من عطر قوي، تلاحظون قيدت الحدث ب”أمس” إن كان ذاك إيجازا مني الآن؛ إذ الإطناب أن تذكر التاريخ بتفصيل ، فإنه بعد مدة لن يكون له أدنى أهمية، لن تعرف أنت بله المتلقي ماهية ذاك “الأمس”، ولو أراد أحد بعد اطلاعه على هذا النص أن يخبر عن هذا الحدث ،لن يستطيع تحديده بزمن؛ اللهم إلا أن يقول جرى في يوم من الأيام أو أمس لفلان كيت وكيت، على أي ما زلت أرى أثر الزكام علي هذا الصباح حيث أدون هذا الكلام، صداع وزكام لطالما كنت ألمح أن ثمة رحما عجيبة بين العلل التي تصيب الإنسان، يأتي الصداع فيخلفه الزكام والحمى، ولا يتوقف الأمر حتى يأتي المدد من بقية الأسقام، كلها تُجري تحالفا عليه، ويشد بعضها بعضا كالبنيان المرصوص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى