أشواك البراري.. طفولتي (5)

جميل السلحوت – القدس الشرقية | فلسطين

شهادات الميلاد لمواليد العائلة الجدد

      استأت جدّا من عدم تسجيل شهادات ميلاد لأبناء الأسرة بشكل دقيق عندما يولدون، لكن “ما باليد حيلة”، ومع ذلك انتبهت لهذه الأمور في سنّ مبّكرة، فعندما أنجبت زوجة أخي محمد ابنهما البكر كمال بتاريخ 27-4-1957، وكذلك عندما أنجبت زوجة أبي بتاريخ 5-5-1957، أخي جمال –آخر عنقودها-، قمت بتسجيل تاريخ ميلاد كلّ منهما بحجر جيريّ” حِوَّر” على حائط الغرفة غير المدهون، بعدها اشتريت دفتر جيب بنصف قرش- لا زلت أحتفظ به حتّى يومنا هذا- وسجّلت على صفحاته كلّ مناسبات العائلة من حالات ولادة، حالات وفاة، زواج وسفر، وعندما وصلت الاعداديّة وعرفت مكتب وزارة الصّحة الذي كان خلف الغرفة التّجاريّة في القدس-الآن تشغله مدرسة بنات- عملت لهم شهادات ميلاد، واستمرّيت بذلك، حتّى عرفوا الميلاد في المستشفيات في سبعينات القرن العشرين.

الجوع الكافر:

          بعد نكبة الشّعب الفلسطيني في العام 1948 أصبح الفقر والجوع والحرمان ظاهرة لا يمكن اخفاؤها، أو التّستّر عليها، وتزداد هذه الظّاهرة ضراوة في سنوات المحل التي تنحبس فيها الأمطار. فالبطالة منتشرة، ومصادر الرّزق تكاد تكون معدومة، فكان العمّال يعملون في ورشات الأشغال العامّة لتعبيد الشّوارع وفتح شوارع جديدة بطرق بدائيّة، تعتمد على الجهد العضليّ، كانت أجرة العامل تتراوح بين 25-30 قرشا أردنّيّا في اليوم. لكن هذا العمل لا يتوفرّ إلا لثلاثة أو أربعة أشهر في صيف كلّ عام.

في بلدتنا كان الميسورون هم من يقتنون قطعان الأغنام، ومن يزرعون الخضار على جانبي واد النّار، ويروونها بمياه المجاري المنسابة من مدينة القدس. وأيضا من يزرعون الأراضي الشّاسعة بالحبوب، لكنّ الحصاد غير مضمون لاعتماده على مياه الأمطار غير المنتظمة، لذا فإنّهم لجأوا إلى تخزين القمح الزّائد عن حاجة الاستهلاك السّنويّ في سنوات الخصب، ليسدّ احتياجاتهم في سنوات القحط.

        ومع ذلك كان هناك فقر مدقع وبشكل نسبيّ ومتفاوت، أعرف أسرة كريمة مستورة الحال، مكوّنة من أب مسنّ هَرِم، يعيل زوجته وأربعة أطفال، لم تكن له أرض ولا أغنام، يعيشون حياة الكفاف في خشّبيّة من ألواح الزّينكو الصّدئة ليست ملكا لهم، أحد أبنائهم مولود في العام 1945، طويل القامة ضخم الجثّة، وبسبب الفقر والحرمان يأكل كلّ ما يقدّم له، فاشتكت والدته –رحمها الله- ذلك لإحدى العجائز فقالت لها:

ابنك مصاب بجَرَبِ البطن”تقصد المعدة”! ضعي له في الطّعام “كبريت”،

  • معجون كريه الرّائحة، لونه أصفر، كانوا يحضرونه من دائرة البيطرة، ويدهنون به وجوه الماشية التي تصاب بالجرب- كان ذلك الطّفل يستمع لحديثهما، فقامت والدته وحضّرت طنجرة من “شوربة العدس” وعملت له “فتيتا”، لكنّه رفض تناول الطّعام لتخوّفه منه، فأرادت والدته تشجيعه بأن وضعت في فمها لقمة واحدة؛ لتشجّعه على تناول “الفتيت”وهي تردّد لا تخف. فدبّت أوجاع لا تحتمل في معدتها، تمّ نقلها إلى المستشفى لإنقاذ حياتها. وخرجت من المستشفى لتمضي بقيّة حياتها تلهث متألّمة، تعاني من صعوبة في التّنفّس، وآلام في المعدة.

وليت تلك الأسرة مستورة الحال ومثلها كثيرون أخذوا بنصيحة الصّحابيّ الجليل أبي ذرّ الغفاري –رضي الله عنه-:

” عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الإنس شاهرا سيفه” فالفقر عواقبه وخيمة، وممّا يروى عن الإمام عليّ –كرّم الله وجهه- قوله:

 “لو كان الفقر رجلا لقتلته”.

     يجدر التّنويه هنا أنّ الميسورين كانوا يعتمدون في طعامهم على الحليب ومشتقّاته مثل: اللبن، الزّبدة، السّمن البلدي، والجبن، وخبز القمح، واعتمادهم على نظام الغذاء الواحد قد يكون سببا في سلامتهم الصّحّيّة وطول أعمارهم، حيث وصلت أعمار بعضهم إلى أكثر من تسعين سنة. لكنّ التّخلّف الاجتماعيّ، جعلهم بعيدين عن الحياة الحضريّة، فلم تكن هناك نظافة أو تعليم، أو رعاية صحّيّة وغيرها من مستلزمات الحياة.

 

صيد الحيوانات لأكل لحومها

الواوي والويوي

          كان جدّي لأمّي يمتلك مصيدة “فخّا” يصطاد به بعض الحيوانات البرّيّة، وذات ليلة كنت نائما عندهم في حضن جدّتي، كنت في الصّفّ الثّاني الابتدائيّ عندما قبضت مصيدة جدّي ذلك الصّباح “ثعلبا” وفور رؤية جدّي للصّيد، استلّ “شبريّته” وقطع رأس “الواوي” وأتى به، وقال – كما كانوا يعتقدون في تلك السّنين- : “إن كانت على ذنبه شعرة بيضاء فهذا “وِيوِي” وأكله حلال! وإن لم توجد شعرة بيضاء فهذا واوي وأكله حرام”! وطلب منّي أن أبحث عن شعرة بيضاء على ذنب ذلك الحيوان التّعيس، فأشرت إلى شعرة وقلت: هذه شعرة بيضاء.

فسلخه وقطّعه، ورمى به لجدّتي التي تلّثمت قرفا من ذلك “الواوي”، لكنّها لا تملك حقّ الاعتراض لتغسله، أشعل نيران الموقد، وشوى الثّعلب على صاج الخبز،  فأكله جدّي وأكلت معه.

وأكل الثّعالب في ذلك الوقت كان شائعا عند الجميع بشرط أن يكون “وِيوِي” وليس “واويا”!

الضّبع

      هناك من كانوا يأكلون الجانب الأيمن من الضّبع أيضا، اعتقادا منهم بأنّه حلال، أمّا الجانب الأيسر فحرام!

       عندما كنت تلميذا في المرحلة الاعداديّة، أرسلنا أبي صيفا أنا وأخي طه؛ لنوصل طحينا، سكّرا، شايا و”صندوق خيار” لراعي أغنامنا عند “بئر العازمي” في البرّيّة، فامتطينا البغل وسرنا لآداء المهمّة، وهناك وجدنا راعي أغنامنا، ومعه راعيان آخران يسلخان ضبعا اصطاده أحدهم برصاصة من بندقيّة انجليزيّة، كان حريصا أن تكون إصابة الضّبع في رأسه، لأنّه يريد الجلد سليما دون ثقوب؛ ليهديه لشيخ قبيلته؛ كي يضعه على سرج فرسه، طلب راعي أغنامنا أن يكون نصيبه من جانب الضّبع الأيمن أكثر من نصيب رفيقيه، لأنّه سيطعمني أنا وأخي معه. بينما سيكون الجانب الأيسر من نصيب الكلاب؛ لأنّه حرام! فقلت لهم بأنّه إذا كان الجانب الأيمن حلالا، فبالتّاكيد أنّ الجانب الأيسر حلال أيضا، أمسكت شبريّة أحدهم وقطعت خصلة الفخذ الأيسر وسط استنكارهم –خوفا من الحرام-! وجمعنا الحطب وشوينا لحم الضّبع، ويبدو أنّه كان هرما، وضعت قطعة واحدة في فمي، وبقيت أمضغها لعدّة دقائق، لكنّها لم تكن قابلة للمضغ فلفظتها. بينما أكل الرّعاة الجانب الأيمن، ورفض أخي طه أن يأكل منه.

النّيص

          النّيص “حيوان مسالم له رأس سميك خال من الأشواك الى الأذن. الأنف منتفخ، المنخران مشقوقان قليلا، الأذنان صغيرتان، تنتشر على معظم جسمه أشواك والبطن يكسوها شعر كثيف، وهو حيوان ليليّ يعيش في جحور صخريّة أو رمليّة .

طوله حوالي 65 سم، الذّيل 11 سم، ارتفاع كتفه 24 سم، جسمه مغطى بأشواك عارية مقلّمة بالأبيض البنّيّ، وهي تشبه قصبات ريش الطيور بطول 20 الى 40 سم”.

       في بداية فصل الشّتاء، وبدء موسم الحراثة لزراعة الحبوب، كان عمّي محمّد يشارك أبي في حراثة الأرض، وموسم الحراثة على البغال كان يستمرّ لشهرين أو أكثر، فأبي اعتاد أن يفلح أرضنا جميعها دون حساب للخصب أو المحل، فإذا تساقطت الأمطار وأخصب الموسم، نحصد وندرس ونخزّن الحبوب والأتبان، وإذا أمحلت يتركون الأغنام لترعى الزّرع الأخضر.

    ذات يوم شتويّ دافئ، كانت الشّمس تسطع على استحياء، كنت طالبا في الثّانويّة، عندما كنت وشقيقي ابراهيم عند الحاجب الصّخريّ الصوّاني لجبل المنطار من الجهة الشّماليّة، وإذا بنيص يمرّ راكضا ويدخل في جحر تحت الحاجب الصّخريّ، ركضنا خلفه والتقطنا من باب جحره عددا من أشواكه التي تشبه الرّماح الصّغيرة، التي يزيد طول بعضها عن 20 سنتمتر، وهذه الأشواك يدافع بها عن نفسه إذا ما طورد، فيطلقها من جانبي جسده، لكنّه لا يستطيع أن يطلقها أمامه وخلفه حسبما علمنا من ذوي الخبرة والمعرفة بهذا الحيوان، الذي يحبّ التقاط جذور “البُصّيل”- البصل البرّي-.

مرّ بنا عمّي محمّد، فأخبرناه عن النّيص، وأكّدنا له أنّه موجود في الجحر، فأبعدنا من المكان كي يطمئنّ النّيص بعدم وجود أحد قد يشكّل خطرا عليه، في حين جلس العمّ فوق الجحر مباشرة بهدوء تامّ، ينتظر النّيص حتّى يخرج، ليصطاده، وبعد حوالي نصف ساعة، مدّ النّيص رأسه يلتفت يمينا ويسارا ليتأكدّ بعدم وجود من يهدّده، فضربه عمّي بعصا غليظة على أنفه، وهجم عليه؛ ليذبحه بشبريّته، فصرخ النّيص صراخا يشبه صراخ الأطفال، لكنّ ذلك لم يشفع له، تمعّنت بالنّيص الذّبيح، رأيت أذنيه اللتين تشبهان أذني الانسان، وكفوف قوائمه وأصابعه قريبة الشّبه بكفّي الانسان، تعاطفت مع ذلك الحيوان سيّء الحظّ، بل حزنت عليه، وأثناء سلخه لم أستطع مشاهدة المنظر، الذي تجسّد لي على شكل طفل، طبخوه وأكلوه ولم أشاركهم ذلك، بل أمضيت يومي دون شهيّة بي للطّعام.

القنفذ

            القنفذ كما ورد في موسوعة وكيبيديا: “حيوان صغير من الثّدييات ينشط صيفا، وينام شتاء، يستيقظ في الرّبيع ويعتاش على أكل الحشرات، يأكل الدّيدان والزّواحف والفئران الصّغيرة وبيض الطّيور التي تعشّش في البراري، كما يأكل النّباتات والثّمار. يسمّى الشّوك الذي يعتري جلد القنفذ بالحسك.

     يلد ويرضع صغاره وله رأس بدون رقبة ظاهرة وأذنان صغيرتان وفم مستطيل، وذو أرجل قصيرة، تغطي كلّ جسمه أشواك حادة، وعند شعوره بأيّ خطر يكوّر جسمه على شكل كرة شوكيّة تقيه شرّ أعدائه.

يستطيع معاركة الأفاعي وذلك بتكوّره ومحاولة التقاط ذنبها بفمه المختبئ، وكلّ حركة للحيّة تزيدها ألما وضررا. ينشط ليلا في الأيام المقمرة باحثا عمّا يقتات عليه.”

والقنفذ من الحيوانات التي تأكل العقارب والأفاعي.

 ذات يوم ربيعيّ، كنت في نهاية المرحلة الابتدائيّة، فمررنا أنا وشقيقي ابراهيم وأخي محمود بخمسة قنافذ، في وادي قدّوم قرب راس العامود في القدس، كانت المنطقة تخلو من الأبنية في ذلك الوقت، حمل أخي محمود الذي يكبرني بعشر سنوات القنافذ في كيس اسمنت فارغ، وعاد بها إلى البيت في جبل المكبّر، كانت متكوّرة على نفسها وتبدو ككرة من الأشواك، سكب على كلّ واحد منها قليلا من الماء، وما أن يحسّ القنفذ بالماء حتّى يمدّ رأسه، فيلتقطه أخي محمود ويذبحه، سلخها محمود وقطّعها، وقلاها بالزّيت، علما أنّ عظامها مكسوّة بقليل من اللحم، أكلها محمود وابراهيم، بينما تقزّزت أنا منها ولم أذق طعمها.

 

هريسة دير مارسابا

        كنت في التّاسعة من عمري، عندما قرّرنا أنا وثلّة من أقراني أن نقوم برحلة إلى البحر الميّت سيرا على الأقدام! بعد أن سمعنا من الكبار بأنّ المياه السّائبة في وادي النّار الذي يقسم قريتي “السّواحرة” إلى قسمين يصبّ في البحر الميّت، مشينا مع الوادي نتراكض بصبيانيّة شقيّة، مشينا بجانب الوادي الذي كانت تزرع على جانبيه أنواع مختلفة من الخضار، التي كانت تباع في أسواق المدن مثل القدس وعمّان وغيرها، وتنتهي زراعة الخضار عند جسر الشّارع الذي يصعد منه الشّارع الجبل شديد الانحدار الذي يصعد إلى بلدة العبيديّة، وذلك المنحدر يسمّيه العامّة “دَبّة الخنزيرة” لوعورته، ذلك الشّارع الذي يربط شمال الضّفّة الغربيّة مع جنوبها منذ العام 1993، عندما أغلق الاحتلال مدينة القدس أمام أبناء شعبها الفلسطينيّ، مع أنّ هذا الشّارع لا يصلح لسير المركبات –حسب المواصفات العالميّة للشّوارع- لشدّة انحداره، ولتخفيف خطورة سير المركبات فيه، فقد عمل متعرّجا كما الأفعى العظيمة الأسطوريّة.

مشينا بعد جسر “أمّ عِراق” عند نهاية منحدر “دبَّة الخنزيرة”حوالي كيلو متر، وفي إحدى المنعطفات مررنا ببيوت حجريّة قديمة تظهر على يسار الوادي، عرفت لاحقا أنّها تعود لعائلات من “العبيديّة”، كانت تعتاش على تربية المواشي، وهناك يزداد الجبلان المحيطان بالوادي انحدارا، وتقلّ أو تتلاشى الأراضي الزّراعية على ضفّتي الوادي، واصلنا طريقنا مع الوادي نغنّي ونصرخ ونتراكض بشقاوة طفولتنا التّعيسة، كان الوادي يتعرّج هو الأخر مع تعرّج الجبلين المحيطين به، وفي انحناءة الجبلين المحيطين بالوادي، وبعد البيوت التي مررنا بها، ظهر على يميننا مجموعة أبنية متلاصقة، يحيط بها سور عظيم، فدهشنا من جمال ذلك المكان، وقرّرنا تسلّق الجبل لاستطلاعه، بقينا نصعد على أدراج حتّى وجدنا بوّابة حديديّة عند أعلاه، وأمام تلك البوّابة وجدنا راهبا يتمشّى أمامها، كنّا في فصل الرّبيع، رآنا ذلك الرّاهب نلهث ويسيل العرق من أجسادنا، سألناه عن ماء للشّرب، فأشار لنا بأن نتبعه، فتبعناه عبر ممرّ واسع فيه درجات متباعدة، وعند أوّل غرفة على يميننا أجلسنا على مقاعد خشبيّة، أحضر لنا ماء في كوب معدنيّ، فشربنا حتّى ارتوينا.

سألنا الرّاهب بعربيّة ركيكة: من أين أنتم؟

فأجبناه: من السّواحرة.

 وعاد يسألنا: هل أنتم جائعون؟

 فأجبناه: نعم.

 فأحضر لنا خبزا، زيتونا، مربّى وجبنا، فأكلنا حتّى شبعنا. وبعدها عاد وسألنا: هل أنتم مسيحيّون أم مسلمون؟

 فأجبته كاذبا بأنّنا مسيحيّون.

 عندها أحضر لكلّ منا صحنا فيه مادّة لزجة حتّى التّجمد غرفها من “زير” فخّاريّ مجاور مع ملعقة صغيرة، التهم كلّ منّا صحنه بشراهة على اعتبار أنّها “هريسة فرنجيّة”، ولمّا ابتعد الرّاهب قليلا لسبب لا نعرفه، سطونا على الزّير مرّة أخرى، وعبّأنا صحوننا والتهمنا “الهريسة” بشراهة، جلسنا في الدّير أقلّ من نصف ساعة، وخرجنا نترنّح دون أن نعرف سببا لذلك، كنّا نضحك بشكل متواصل، جلسنا على تلّة فوق الدّير لحوالي نصف ساعة أخرى، وشعرنا بأنّنا لن نقوى على الوصول إلى البحر الميّت، فعدنا أدراجنا إلى بيوتنا ضاحكين متكاسلين، فظنّتني أمّي مريضا، لجأت إلى الفراش، نمت أكثر من عشرين ساعة، وتبيّن لنا من خلال الكبار أنّ “الهريسة” التي تناولناها في الليل ما هي إلا مجرّد نبيذ معتّق! ويبدو أنّ الرّاهب الذي لم يكن يتكلّم العربيّة بطريقة جيّدة قد ظنّ أنّنا مسيحيون من مدينة بيت ساحور، وهذا ما فسّرناه بعد أن كبرنا.

إخوتي المسيحيّون:

          في طفولتي المبكّرة عمل شرطيّ أردنيّ من قرية “الحصن” قضاء اربد في شمال الأردنّ، شرطيّا في مخفر شرطة بلدتي، الواقع على قمّة جبل المكبر، وهدم المحتلون بنايته التي يملكها المرحوم الشّيخ حسين ابراهيم شقير مختار عشيرة الشقيرات بعد حرب حزيران 1967، كان اسم ذلك الشّرطيّ موسى ابراهيم، وله ثلاثة أبناء هم: طعمة، وليام وغسّان، استأجروا بيتا في بلدتنا من غرفة واحدة تحتها مغارة، كان ملكا للمرحومة حمدة أبو موسى من حامولة الخلايلة، كنت وطعمة في صفّ واحد، كنّا نلعب سويّة، نأكل ونشرب على مائدة واحدة سواء في بيتنا أو في بيتهم، وأحيانا كنّا ننام بجانب بعضنا البعض، كنت أخاطب أبا طعمة بعمّي، وأمّ طعمة بخالتي، وهكذا كان أبناؤه يخاطبون المرحومين أمّي وأبي، عندما كنا نتشاجر كأطفال ونحن نلعب “الاكس” أو “البنانير، أو السبع صرارات،” كان الكبار -وغالبا ما كنّ أمهاتنا- يقولون لنا:”العبوا خيوه خيوه” أي كالأخوة.

في عيدي الفطر والأضحى، كان أبي يدعو أسرة أبي طعمة على منسف، وفي أعياد الفصح المسيحيّة، كانت أمّ طعمة توزّع علينا البيض المسلوق الملوّن، وفي أعياد الميلاد المجيدة ورأس السّنة الميلاديّة كانت توزّع علينا الألعاب والحلوى. كنّا نعايدهم ويعايدوننا، حتّى حسبت وأنا طفل أنّ الأعياد المسيحيّة أعياد اسلاميّة، والعكس صحيح أيضا في مشاعرهم.

لم نشعر يوما ما بأنّ هناك فروقا في أيّ شيء بيننا وبينهم. تلك الأسرة الكريمة هي أوّل من عرفت من إخوتنا المسيحيّين، وعندما شببت تعرّفت على إخوة مسيحيّين آخرين وصرنا أصدقاء متحابّين، لم يخطر ببالي، أو ببالهم أنّ هناك فروقا بين المسلمين والمسيحيّين. فرّقتنا وأسرة أبو طعمة حرب حزيران 1967، ولم نلتق منذ ذلك التّاريخ، وعلمت من بعض الزّملاء أنّ طعمة ووليام قد تعلّما الطّبّ ويعملان في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى