رواية العسف وتجربة الإعتقال

عبد الله دعيس | فلسطين

صدرت رواية “العسف” للأديب المقدسي جميل السلحوت عام 2014 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس. وتقع الرواية التي صمّمت غلافها الفنانة التشكيلية رشا السرميطي في 130 صفحة من الحجم المتوسط. وممّا يذكر أن هذه الرواية هي الجزء الخامس من سلسلة “درب الآلام الفلسطيني الروائي” للكاتب السلحوت. وتأتي بعد روايات”ظلام النهار” و”جنة الجحيم” و “هوان النعيم” و”برد الصيف”. وجميعها صدرت تباعا عن دار الجندي للنشر والتوزيع المقدسية.

العسف … عنوان يهز القارئ، ويحرك وجدانه، قبل أن تغادر عيناه غلاف الرواية الذي يظهر يدين موشحتين بالقيود، لكنه لا يصور الوجه الممتقع بالألم، ولا الفؤاد الذي يغمره الحنين، ولا القلب الشجاع، لنجد هذا كله داخل صفحات الرواية مرصوصا بإبداع ودراية.

ونستذكر قول أبي القاسم الشابي

لَسْتُ أبْكي لِعَسْـــــفِ لَيْـلٍ طَويلٍ

أَوْ لِربعٍ غَدَا العَفَاءُ مَرَاحــــهْ

إنَّما عَبْــــــرَتِي لِخَطْـــــــبٍ ثَقِيلٍ

قد عَرانا، ولم نجد من أزاحهُ

كلّما قـامَ في البـــــلادِ خطـــــيبٌ

مُوقِظٌ شَعْبَهُ يُرِيـــــدُ صَلاَحَهْ

ألبسوا روحَــــهُ قميصَ اضطهادٍ

فاتكٍ شائكٍ يردُّ جِمـــــــــاحَهْ

وتوخَّـــــوْا طــرائقَ العَسف الإِرْ

هَاقِ تَوًّا، وَمَا تَوَخَّـوا سَمَاحَهْ

هكذا المخلصــون في كلِّ صوبٍ  

رَشَقَاتُ الرَّدَى إليـــهم مُتَاحَهْ

غيـــرَ أنَّا تناوبــــــتنا الــــرَّزايـا

واستباحَتْ حَمانا أيَّ استباحَهْ

والعسف هو الجور والظلم، والأخذ بالقوة والعنف، وهو كذلك السير على الطريق على غير هدى، وركوب الأمر بلا تدبير ولا رويّة. ومن أظلم ممن يسلب الحرية ويودع الإنسان غياهب السجون، لا لشيء إلا لأنه لم يرض الذلة، وقام من أجل وطن سليب. ومن أضل ممن يظن أن الظلم والعنف يجلب له الأمان، أو يمحو من القلوب حب الوطن. وكما تعسّف المرأة سقف بيتها من خيوط العنكبوت، فإن فلسطين ستعسف بأعدائها، وتنال حريتها، بثبات وتضحيات أبنائها. “وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت” صدق الله العظيم.

تبدأ الرواية بالعميل أبي سالم الذي يتحسس الأخبار لنقلها للعدو، وتنتهي بالمعتقلين يعالجون أنفسهم من الدمامل التي بدأت تفتك بأجسادهم، عن طريق عصرها والتخلص من أدرانها، مهما كان هذا الأمر مؤلما. والكاتب يشير هنا إلى ظاهرة العمالة، ويدعو إلى نبذها وتطهير المجتمع منها، برمزية رائعة. فأبو سالم لا نعلم مصيره ولا ينال عقابه، لكنه هو وشاكلته من العملاء يفتكون بالوطن كما تفتك تلك الدمامل بالجسد، فلا خلاص منهم إلا بنبذهم وتطهير الوطن منهم.

وتنقلنا الرواية لنعيش في فترة تاريخية مهمة، ألا وهي السنوات التي تلت احتلال القدس وباقي فلسطين في عام 1967. والكاتب لم يستحضر التاريخ فحسب، بل جعلنا نعيش تلك الفترة بأحداثها وأفكارها وآلامها وأحلامها وحتى بلغتها الدارجة وأمثالها وأقوالها.

فمن خلال قراءتنا لصفحات الكتاب، ينقلنا الكاتب إلى عالم السجون والاعتقال، وإلى داخل غرف التحقيق، لنعيش ألم المعتقل ومعاناته، ولنرى بأم أعيننا ما يدور خلف تلك الأبواب الموصدة وفي تلك الغرف المظلمة. يجعلنا نعيش ملحمة بطولة وفداء، ونشهد جريمة قلّ نظيرها، نشهد أحداثا يندى لها جبين البشرية، لو كان للبشرية شيء من إحساس أو مكان لنصرة مظلوم وإحقاق حق ودحر باطل.

والكاتب في روايته هذه، يبتدع شخصية خليل الأكتع، ذلك الطالب المعاق، الذي لا تمنعه إعاقته من الاستشراف للعمل من أجل الوطن، ولا تكون إعاقته شفيعة له أمام عدو غاشم لا يراعي أي حق لمعتقل. ونخطو مع خليل منذ أول لحظة من اعتقاله ليحكي لنا قصة مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين زج بهم في المعتقلات والسجون منذ أن حط الاحتلال على أرض فلسطين.

يبدأ مشوار التعذيب والإذلال من لحظة الاعتقال، ولا يكتفي العدو بتعذيب الجسد بل يتعدى ذلك إلى التعذيب النفسي بشتى الوسائل، دون مراعاة لأي وازع أخلاقي، حتى يصل الأمر بهم إلى اعتقال اخت خليل الأكتع وتعريتها للضغط عليه للاعتراف.

ويستخدم المحققون، بكل دهاء، أساليب الترغيب والترهيب لدفع المعتقل للاعتراف والوشاية بزملائه، ولا يكلّون ولا يملّون، ويعيدون المحاولة تلو الأخرى، فإذا لم ينجح أسلوب لجؤوا إلى آخر. فمن التعذيب بالضرب، إلى التعذيب النفسي بالحرمان من النوم عن طريق إسماع المعتقل أصواتا مسجّلة لرجال ونساء تحت التعذيب، إلى الصعق بالكهرباء ثمّ استخدام أسلوب العصافير، وهم العملاء الذين يتظاهرون بالعطف على المعتقل حتى يبوح لهم بما لم يقله للمحققين. لكن خليل الأكتع، مثله مثل الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين، لا تجدي معه كل هذه الأساليب نفعا، فالثبات والإصرار على الحق هو ديدنهم وسبيلهم. لكن المحقق لا ييأس، فيستغل أصول الأكتع البدوية ويرسله إلى محقق بدوي يستعمل معه أسلوب اللين ثم أسلوب التخويف والترهيب، ويظهر بمظهر المشفق عليه قبل أن يتحول إلى وحش كاسر هو الآخر. لكن كل هذه الطرق لا تجدي مع من تجذّر الإيمان بعدالة قضيته في قلبه، وبمن تاقت نفسه لحرية لا يمكن أن تدرك بغير التضحيات.

وبعد ذلك ينقلنا الكاتب إلى مشهد آخر، وهو الحياة داخل السجن. نعيش بين المساجين في زنازينهم وغرفهم، نتذوق معهم ذلك الطعام الرديء، ونرى المشاكل التي تنشب بينهم، ونراها وهي ترى طريقها إلى الحل. نرى عطف وإشفاق بعضهم على بعض، دون أن تغادرهم ريبة زرعها عدوهم في نفوسهم، فما يدريهم أن أحدهم لا يعمل لمصلحة العدو. ونعيش معهم حتى في فكاهتهم ومزاحهم. في ذلك المكان المؤلم، نعيش قصص (الحاج فلعوص) الخيالية ونضحك عليها، ضحكة من لا يرضى للعدو الذي سلبه حريته أن يسلبه ابتسامته، ونشهد حديثهم عن السياسة، ونسمع حكاياتهم التي يعاودون ترديدها في كل يوم، ونشاركهم حتى في حديثهم عن الجنس. ثم نرى نضال المعتقلين لنيل حقوقهم وإضرابهم عن الطعام وإرغام العدو على تحسين أوضاعهم المعيشية.

والكاتب يعرّج على الكثير من أصناف الإذلال والتعذيب للمساجين: فالغرف مكتظة غير صحية، والطعام رديء، والبعوض والقمل ينتشر بشكل كبير، والعزل الانفرادي هو مصير من يرفع عصا التمرد والعصيان. ولكنه يظهر جانبا مضيئا من بين هذا الركام، فالمساجين يستغلون وقتهم بتعلم القراءة والكتابة، وتعلم اللغات وقراءة الكتب. فالشعب الفلسطيني مهما اجتمعت عليه ظروف الحياة الصعبة لا ينبذ الأمل ويرنو دائما نحو مستقبل باهر.

وإلى جانب تجربة السجن، يذكر الكاتب أيضا تجربة الإبعاد عن الوطن، فالإبعاد ليس أقل تعذيبا من السجن، فأن تسجن في قلب وطنك خير من أن تقاسي مرارة الابتعاد عنه.

يستخدم الكاتب في هذه الرواية لغة بسيطة تقترب من اللغة المحكية، لكنها تحتفظ بتألق اللغة الفصيحة ورزانتها. فهو يطوّع اللغة، ويختار المفردات التي يستخدمها عامة الناس وتجد طريقها إلى عقولهم وقلوبهم دون أن ينحاز عن استعمال لغة سليمة جزلة. وهذا إبداع يحسب للكاتب. ويضمّن الكاتب روايته أيضا عددا كبيرا من الأمثال الشعبية والأقوال الشائعة والتي تأتي في مكانها، وضمن الحوار في الرواية، وتأتي في سياق يمكّن من فهمها. وهذا في رأيي أسلوب جميل لحفظ هذا التراث الثري، وهو أفضل بكثير من مجرد سرد هذه الأقوال في كتاب أو مقال وأّدْعى لحفظها.

هكذا نقلت لنا هذه الرواية الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، والثبات والتضحية التي يواجهون بها هذا العسف. لكن التمادي في هذا الظلم ما هو إلا إيذان ببزوغ الفجر وزوال الاحتلال.”وهم لا يعلمون أن تعذيب المعتقلين سيكون سببا في قصر عمر احتلالهم. فهذه البلاد لا يعمر فيها ظالم.” ص 76.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى