تغييب الوعي وتسريد التاريخ

د. خضر محجز  مفكر عربي | فلسطين

العلاقة بين السرد والتاريخ والأيديولوجيا

كل إصلاح إنساني هو إعادة توكيد المصالح الأولية للإنسان، ضد سلطان المبادئ العامة، التي لم تعد تمثل هذه المصالح تمثيلاً عادلاً؛ والتي مع ذلك ظلت تتمتع بتقديس الإنسان وولائه الأعمى. جورج سانتيانا

سنبدأ بتعريف كل واحد من المصطلحات الثلاثة:

1ـ فالسرد هو مجموعة مؤثرات لغوية مهمتها تحويل كلام ما من خطاب واقعي محكوم بالتفسيرات العقلية إلى قصة أو حكاية تتخذ المتعة وسيلة لتمرير اللامعقول واللامنطقي. أي أن السرد هو قص حكاية هي في الغالب تخييلية بهدف صياغة الوعي.

2ـ أما التاريخ فهو مجموعة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية… المؤثرة في صياغة كل من الوعي والخطاب. أي أنه فعل الإنسان في الدنيا بشروط الدنيا.

3ـ أما الأيديولوجيا فهي نسق من الأفكار والقناعات التي تشكل وعياً قَبْلِيّاً حاكما على كل تفسير، ولا تخضع للتمحيص العقلي. وهذا هو ما دعا ماركس إلى اعتبارها نوعاً من الوعي الزائف، باعتبارها مضادة لمصلحة معتنقيها.

والسؤال هو: ما علاقة كل هذا بالوعي البشري؟. أو الوعي العربي على وجه الخصوص؟.

أن إلقاء الضوء من جديد على لحظات تشكل الوعي العربي الأول، تقودنا بالفعل إلى إعادة قراءة الحدث التاريخي الزمني، باعتباره ناتجاً لعلاقات القوة. نحن لم نسبق إلى هذا القول المعروف، فقد سبق لنيتشه أنه قرره مبكراً، عندما قال بأن التاريخ هو علاقة القوة. لكن ما يمكن لنا القول إنه جديد هنا، هو محاولتنا رفع القداسة عن التاريخ الإسلامي. فالتاريخ هو فعل الإنسان في الدنيا بشروط الدنيا، مما يفيد بأنه لا محل هناك لأي من التقديس أو رفض المناقشة. فأبو بكر إنسان، وعلي إنسان، ومعاوية إنسان، ونحن الرعية كذلك مجموعة من الأناس كذلك.

أولاً في سردية التاريخ المكتوب:

دعونا الآن نناقش بعض السرديات الكبرى في التاريخ الإسلامي:

كنا قد بينا في محاضرات سابقة أن مسألة كتابة معاوية للوحي هي مجرد إشاعة. لكن دعونا الآن ننظر كيف تحولت هذه الإشاعة إلى سردية حكائية، تعيد صياغة الوعي. معاوية كاتب الوحي. ومعاوية خال المؤمنين. ومعاوية موحد المسلمين تحت راية واحدة، بعد سنوات من الفرقة. ومعاوية لا يقطع ما بينه وبين الناس، ولو كان في دقة الشعرة. ومعاوية أخلق الناس بالملك كما تنقل السردية عن ابن عباس… ها قد تشكلت لنا سردية أولى، تشبه أساطير الشعوب البدائية، في تقديس الأبطال من أنصاف الآلهة. فكيف يؤثر ذلك في وعي الشعوب؟.

تقول السردية إن الأمة كانت مقسومة متحاربة، بسبب الفتنة والخلاف على الحكم. ثم لم تلبث هذه الأمة أن اجتمعت كلمتها، على الملك الحازم الحكيم معاوية، الذي هو ليس مجرد شخص عادي من طلقاء الفتح، بل هو صحابي جليل، وخال للمؤمنين، وكاتب للوحي، وحكيم الحكماء… فماذا سوف يتبقى لعلي بعد كل هذا المديح لخصمه؟. والمقصود ماذا تبقى للحقيقة التي حملها علي، في مواجهة الشائعة التي صاغتها أبواق دولة معاوية؟. وقل مثل هذا في كثير من أدوات صياغة الوعي.

دعونا الآن ننتقل إلى سردية أخرى، هي سردية الأئمة العظام، الذين صاغوا وعي الدين ووعي الأمة ووعي التاريخ. وبين يدي ذلك دعونا ننقل النص التالي:

في الصفحات الأولى لمقدمة كتاب (الأم)، الذي كتبه الإمام الشافعي في القرن الهجري الثالث، ينقل لنا محقق الكتاب ـ ولا شك أنه من مفتي اليوم ـ قصة حدثت في العصر العباسي الأول، تروي كيفية اعتقال الشافعي، في اليمن، ونقله مهاناً إلى بلاط هارون الرشيد في بغداد. وبعد أن أعدم الرشيد أمام عينيه كل مرافقيه، سمح له بالكلام. فكان ما يلي:  

“فقال الشافعي: أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين، فسأتكلم بالعدل والإنصاف. ولكن الكلام مع ثقل الحديد صعب. فإن جُدتَ عليّ بفكه عن قدميّ، جثيتُ على ركبتيّ، كسيرة آبائي عند آبائك، وأفصحتُ عن نفسي، وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى والله غني حميد. فالتفت الرشيد إلى غلامه سراج، وقال له: حُلَّ عنه. فأخذ سراج ما في قدميه من الحديد. فجثا الشافعي على ركبتيه وقال: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا”. حاشا لله أن أكون ذلك الرجل. لقد أفك المبلّغ فيما بلّغك به. إن لي حرمة الإسلام، وذمّة النسب، وكفى بها وسيلة. أنت أحق من أخذ بأدب كتاب الله: أنت ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذابّ عن دينه، المحامي عن ملته. فتهلل وجه الرشيد، ثم قال: ليُفرخْ روعك؛ فإنّا نراعي حق قرابتك وعلمك. ثم أمره بالقعود”(1).

دعونا نقل بأنه لا يهمنا إن كانت هذه الحادثة قد حدثت بالفعل، أم أنها مجرد اختلاق مزعوم مدسوس على إمام الأمة. لأن الذي يهمنا حقاً هو نقل هذه الحادثة وإثباتها، في مقدمة كتاب يؤسس لمذهب يصوغ وعي الأمة الديني والفقهي والشرعي والسلطوي. وإن هذا النقل في الحقيقة لحاملٌ في ذاته حكم قيمة. ولا شك أن حكم القيمة هو دعوة لتكرار النموذج.

إن الخطير في نقل هذا النص، من رواية الماضي إلى كتاب اليوم، ليس هو هذه الصورة المستكينة، التي بدا عليها رجل تأخذ الأمة عنه دينها، فحسب، بل وجود مثل هذه العقلية، التي استمرأت نقل هذا النص إلى طلاب العلم الشرعي، بعد أكثر من اثني عشر قرناً من حدوثه، أو تأليفه، باعتباره يقدم الصورة الأمثل للعلاقة بين رجل الدين والسلطة!.

يظهر الشافعي ـ في هذا النص المستدعى أبداً ـ كرجل ذليل؛ يتوسل حياته بتزوير النصوص الدينية، وتطويعها لخدمة المستبد. ويظهر المستبد فيه شخصاً يستحق التقدير؛ لعفوه عن “إمام الأمة”، بغض النظر عن حجم هذا القتل الذريع، الذي مارسه قبل لحظات!.

الشافعي في هذا النص يقر للسلطان بحقه في القتل دون محاكمة، ويشتم آباءه إذ يجعلهم مجرد خدم عند آباء السلطان. في هذا النص لا يقر الشافعي لهارون الرشيد بأحقيته في وراثة السلطة عن آبائه السالفين فحسب، بل يقر كذلك بأن مكانة المطلبيين من العباسيين هي تحت الأقدام. فإذا كان مكان المطلبيين من بني عبد مناف في وعي هذا النص تحت أقدام العباسيين، فليت شعري أين مكان الرعاع من أمثالنا ممن لا يصعد بهم نسبهم إلى عبد مناف؟.

هذا كله في النص المكتوب المعلن، أو شعور النص. أما إذا انتقلنا لما هو أخطر، وهو لاشعور النص، أو ما يمكن قراءته مما بين السطور، فهو أمران، كلاهما يشي بنص مضمر، يختفي تحت قشرة هذا المعلن المكتوب، هما:

1ـ إعجاب غير محدود ببلاغة توسلت بالكذب والقرابة، للفرار من الموت.

2ـ إعجاب متجاوز للزمن بالحاكم، الذي يسمح له “عدله” بالعفو عن “أئمة الدين”.

وهكذا ينهض من هذا النص ـ المتجاوز للزمن ـ وعي ماضوي لا يعترف بالمستقبل، ولا ينظر إلى الحاضر إلا بمنظار المصلحة الذاتية!. ومن المعلوم أن من كان هذا وعيه، فسوف لا يجد مصلحته الحقيقية إلا في الترويج للاستبداد!.. ربما لا يكون هذا هو واقع الشافعي، وربما يكون هذا هو واقعه الفعلي، فقد سبق أن تبنا عن عبادة الأشخاص. لكن ما يهمنا هنا هو صورة الشافعي في هذه السردية الكبرى، وهي لا غيرها من يساهم في صياغة وعي الأمة. إن صورة الشافعي التي تصلنا من خلال هذا النص هي ما يهمنا لا الصورة الحقيقية التي ربما لا تفيد شيئاً في الواقع. وهذه الصورة لدى الأمة وطلاب العلم الشرعي والمقلدين والمفتين هي صورة المثقف الذي يطوع النصوص الدينية لخدمة الحاكم!.

وهكذا تستكين الأمة المقهورة بالنصوص، وتقبل بـ(أمر الله)؛ ويستكين العلماء لرغبة الحاكم، في البحث عن نصوص “أكثر وضوحاً”؛ ويستكين (ظل الله) لأمر هذه النصوص، فيزداد استبداداً، طاعة لـ”أمر الله”، في هذه الأمة المأمورة بالاستكانة، اقتداءً بالأئمة.

تقول السردية إن للحاكم أن يقطع الرؤوس دون مساءلة من علماء الأمة العظام، بل إن عظمة هؤلاء الأئمة ناتجة في الأصل عن استكانتهم للحاكم، ظل الله، والجثو تحت قدميه، بل والإقرار بأن آباءهم عبيد لآبائه.

والسؤال هو هل يستطيع مثل هؤلاء الأئمة ـ المنتجين في هذه السردية ـ أن يقودوا الشعوب نحو حريتها، أم أنهم بالعكس مخولون بقيادتها نحو المزيد من الخنوع، وإغراء الملوك بالمزيد من الاستبداد؟. ألا يفسر لنا هذا لماذا فتنت الدول وفتن الطغاة باتباع الأئمة؟.

تترتب على كل ما سبق نتيجة تقول بأن: الوعي العربي صاغته في الغالب سرديات وقصص خرافية مصنوعة في بلاط الحاكم شارك في صياغتها العلماء والمثقفون، بهدف استبدال التاريخ بالحكاية، واستبدال الحقيقة بالشائعة.

إذن فنحن أمام حالة من حالات تغييب الوعي وتسريد التاريخ (أي تحويل الفعل الدنيوي إلى أسطورة قبلية).

ثانياً في علاقة السرد الديني بالوعي المصنوع:

دعونا الآن نبحث في علاقة السرديات الدينية بالوعي. والمقصود علاقة الصورة الدينية بتخدير الوعي.

الوعي هو حالة عقلية، يكون فيها الإنسان متميزاً بالقدرة على الإحساس بالذات، وإدراك الواقع، والمحاكمة المنطقية للعلاقة بين كيانه الشخصي ومحيطه الخارجي. ومن هنا فللوعي مقدمات ثلاث: توفر الحالة العقلية السليمة، الإحساس بالذات، المنطق السليم.

والسؤال هو: ماذا يحدث عندما تتخلف مقدمة واحدة، أو جميعها، عن الحضور، عند مناقشة واقعة ما؟. أو فلنصغ السؤال ـ وفق العلاقات السابقة ـ في ثلاث صيغ:

1ـ ماذا يحدث عندما يتصدى شخص فاقد للعقل للحكم على حادثة ما؟.

2ـ ماذا يحدث عندما يتصدى شخص فاقد لإحساسه بذاته للحكم على حادثة ما؟.

3ـ ماذا يحدث عندما يتصدى شخص، لا يمتلك القدرة على محاكمة الأشياء وفق المنطق السليم، للحكم على حادثة ما؟.

حسناً. سوف أحاول هنا الإجابة بموضوعية عن كل سؤال من الأسئلة الثلاثة على حدة. فأقول، جواباً على السؤال الأول:

كلنا يعرف أنه عندما يتصدى شخص فاقد للعقل للحكم على حادثة ما، فسوف تتصدى الهيئة الاجتماعية له بالمنع والرفض، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع ترتب نتائج مادية أو معنوية على حكمه، واعتباره كأن لم يكن.

أما في الجواب عن السؤال الثاني: عما سيحدث عندما يتصدى شخص فاقد لإحساسه بذاته، للحكم على حادثة ما، فيمكن القول بنزاهة شديدة: بأن الهيئة الاجتماعية سوف تمحضه سخريتها وازدراءها الشديدين، بما يؤدي إليه ذلك من عزل نفسي، وتقرير جمعي، بمنع ترتب نتائج مادية أو معنوية على حكمه، باعتباره حكماً صادراً عن شخص قاصر الإحساس بذاته، ومن ثم اعتبار هذا الحكم كأن لم يكن.

لكن أخطر ما يمكن أن يواجه المجتمعات، هو هؤلاء الأشخاص الذين يتناولهم السؤال الثالث: أشخاص فاقدون للقدرة على المحاكمة المنطقية للأشياء، ومع ذلك فهم مصرون على التصدي للحكم على أكبر الحوادث وأجلها في المجتمع. إنهم حمقى، وخطورتهم تنبع من كونهم حمقى، لا يستطيعون الإحساس بأنهم يجربون حمقهم، في مجالات لا تحتمل عواقب الحمق. وإذا ما فقدت الهيئة الاجتماعية القدرة على اتخاذ الإجراءات، الكفيلة بمنع ترتب نتائج مادية أو معنوية، على أحكام هؤلاء الحمقى؛ فسوف يتعرض المجتمع برمته لضرر كبير.

فلنتأمل فيما يمكن أن يحدث عندما يتولى بعض هؤلاء الحمقى السلطة السياسية في بلد ما؟. وبين يدينا بعض ما يمكن لحاكم أحمق أن يفعله، في السطور التالية من التاريخ:

عند حديثه عن ابتداء ولاية الحاكم بأمر الله الفاطمي، يترجم ابن تغري بردي لأحوال الحاكم، وينقل عن الذهبي، ما حصيلته أن الحاكم بأمر الله الفاطمي، منع الناس من صلاة التراويح، عشر سنين، ثم أباحها. وأنه أمر بقتل الكلاب، وقطع الكروم، ومنع بيع العنب. وأنه أراق العسل في البحر، لكي لا يحوله الناس إلى خمر. وأنه عندما علم أن بإمكان الرطب أن يتحول إلى خمر، منع بيعه وشراءه، ثم جمعه من الأسواق وأحرقه. ويتحفنا ابن تغري بردي بنوادر أنكى علينا من نار الجحيم، منها أن الحاكم بأمر الله منع الناس من أكل أي طعام يكرهه أو بيعه؛ حتى وصل به الأمر إلى قتل كل من باع الفطر أو الملوخية، أو السمك، أو أكل شيئاً منها.

وفي عام 404هـ خطر للحاكم بأمر الله أن يمنع النساء من الخروج، فمنعهن وألزمهن المكث في بيوتهن ليلاً ونهاراً. وزيادة في تأكيد المنع أمر بتحريم صناعة الأحذية النسائية، وأن لا تنتعل المرأة إلا نعلاً خشبيا، يصلح للبيت ولا يصلح للطريق ـ ولعل ذلك كان ابتداء صناعة القباقيب ـ فلم تخرج امرأة واحدة من بيتها، طوال سبع سنين وسبعة أشهر، حتى مات الحاكم بأمر الله.

وألبس الحاكم بأمر الله اليهود العمائم السود، وكلفهم بتعليق قرامي الخشب في أعناقهم، طوال مرورهم في الشوارع. كما منعهم من الركوب مع المسلمين في سفينة واحدة، وحظر عليهم استئجار أي خادم مسلم، أو ركوب حمار مملوك لمسلم.

أما النصارى ـ الذين يشكلون جزءاً كبيراً من رعايا مملكة الحاكم ـ فقد هدم أديرتهم وكنائسهم، بما فيها كنيسة القيامة بفلسطين، وكان ملك الفاطميين قد وصل إليها. كما أصدر مرسومه القاضي بضرورة أن يلتزموا بتعليق أثقال من الصلبان في أعناقهم، كلما ساروا في الطرقات، مع العلم أن طول الصليب كان يصل إلى ذراع، ووزنه خمسة أرطال مصرية.

وقد عرف الشعب المصري ـ بدهائه التاريخي ـ عرف كيف يواجه هذا الحاكم الأحمق بما يستفزه، فكلما مر الحاكم بالسوق، راكبا حماره، اعترضه (بعض رعاياه)، بورقة يتهيأ للحاكم أنها شكوى، ليكتشف من آخر النهار أنها مجرد رقاع، مختومة بالدعاء عليه وسبه، وسب آبائه، والوقوع فيه وفي حرمه. وقد بلغ من مكر المصريين بحاكمهم أن نصبوا في طريقه تمثالاً من الورق، على هيئة امرأة بخف وإزار. وعندما تناول الحاكم يدها ليعبدها إلى البيت وجدها مجرد تمثال من ورق. فلما فتحها ورأى أنه تعج بالشتائم القبيحة، علم أنه مسخورٌ به، فعاد من وقته إلى قصره، واستدعى قادة الجيش والشرطة، وأمرهم بضرب القاهرة بالنار، ونهبها، وقتل من يظفرون به من سكانها‏.‏

فاجتمع القاهريون، وقاتلوا عن نفوسهم. واستمرت الحرب بينهم وبين جيش الحاكم ثلاثة أيام. كل ذلك، والحاكم بأمر الله يركب يومياً إلى القرافة، ويطلع إلى جبل المقطم، ويشاهد النار، ويسمع الصياح، ويظهر التوجع.

ولم يتوقف حمق الحاكم بأمر الله عند هذا الحد، بل بلغ به الأمر إلى ادعاء الربوبية، وتقريب جماعة من الجهلة والمنتفعين، مهمتهم أن يقولوا له، كلما مر بهم، أمام الناس: السلام عليك يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت. وهكذا تكتل أوباش الناس، وسخفاء العقول، وتجار الولاءات، حول الحاكم، يدعون الناس إلى حاكميته، حتى مال إليه خلق، كثير طمعاً في الدنيا، وتجارة بالدين‏(2).‏.‏

والسؤال هو: هل كان أي حاكم دنيوي مستطيعاً أن يدعي كل هذه الخوارق، ويأمر بكل هذه الحماقات، بمعزل عن (حكايات الدين)؟. لقد أدرك حكام الشعوب العربية استحالة حدوث ذلك في العصر الحديث. ولأنهم يريدون ذلك ويسعون إليه، فقد جرى اختراع الشعارات الكبرى.

لقد هتك الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار كثيرا من أستار الخداع المعاصرة؛ عندما قرر أن كل نظرة شمولية تتم العودة إليها في التفسير، هي مجرد نوع من السرديات الكبرى (Grand narratives)(3)، وأن كل دعوى، تستقي مشروعيتها من أساسيات كبرى، سابقة على الوجود، هي مجرد حكاية يتم التلهي بها عن حقيقة العلاقة بين الإنسان والواقع. إنها مجرد خدعة كبرى، تتخذ شكل الحكاية ـ حكاية التأسيس، حكاية الأفضلية، حكاية الحق الإلهي ـ حيث يسعى (البطل/ الملهم) لبلوغ غاية الأمة، نيابة عنها. فبأسلوب الحكاية هذا، وببلاغة تتوسل باللغة بديلاً عن العقل، يهدهد الطغاة أحلام الجماهير، ويسيطرون على عقولهم ويخدرونهم، ويستلبون ثروتهم. وها نحن نرى في الواقع كيف يتم تسريد الماضي، ورفعه إلى مراتب الأسطورة، حيث ينادي كل طغاة الواقع العربي بضرورة اصطفاف الجماهير من حولهم، ضماناً لتحقيق مجد الأمة الأفضل في الأرض. إنهم يدغدغون الناس بذكريات ماضٍ لم يكن إلا ماضيهم هم، لا نحن الجماهير المطحونة. إنهم يريدون فتح الأندلس من جديد، ليتخذوا منها الجواري، وليبنوا القصور، ثم لنسكن نحن في بيوت الصفيح، ونأكل من المزابل. وعندما تهب رياح الهزيمة سوف يرحل (أبو عبد الله الصغير) بأمواله عن البلاد، ويدع شعبه نهبا للقتل ومحاكم التفتيش. ألم يحدث هذا دائما؟. ألم نتعرض نحن للحصار، بينما واصل الحاكمون التمتع بأفضل عيش وأهنأ واقع. إن حكاما من هذا النوع لن يكونوا مستعدين للتنازل عن السلطة، رحمة لأنين الجوعى والمحزونين.

فلننظر كيف يرفع الحكام عقيرتهم بصرخات النصر الكاذبة بعيد كل هزيمة. فلنتأمل كيف يدغدغ الطغاة أحلام المجد لدينا، في الوقت الذي يتوسلون فيه للعدو قليلا من الحوار. فلنراقب كيف تتصاعد ضغوطات أجهزة قمعهم لحرياتنا، كلما تكلموا عن الحرية التي يكفلها حلمهم الجميل الذي لن يتحقق. ألم يحن الوقت لمراجعة كل هذا الركام من الحكايات عن (الماضي الجميل) الذي يحاولون الآن تخديرنا بعودته؟.

إن أمة تنادي أمواتها للقيام وصناعة النصر، صباح مساء، لأمةٌ مخدرة وقاصرة وراغبة عن بذل ما يصلح حالها؛ وإلا فقولوا لي بربكم: أي فخر هذا الذي يستشعره عاقل من سماعه لكل هذه الأصوات الزاعقة، تستنهض صلاح الدين أن يقوم من قبره؟. ومن قال إن صلاح الدين سينجو حال عودته من قمع الحكام وأجهزة الأمن؟. وأي ابتزاز نتعرض له، كلما طالبنا بقليل من الخبز والحرية، فتعرض حكامنا لنا بالسؤال المهدد: أتريد الخبز أم القدس؟. وأي رعب يمنع ألسنتنا من الرد على هذا الابتزاز، بالمطالبة بالتساوي في المغارم، ريثما تأتي المغانم؟. وهل يمكن لشعب جاهل جائع مقهور أن يسترجع القدس؟. ثم ماذا لو قال أحدهم إنه يريد الخبز أولاً؟. ألا يحق لي أن أتوقع عندئذ أن يقوم حاكم متخم باللحم والنساء بقطع عنقه بتهمة الخيانة العظمى؟!.

لقد أصبح الثبات على الماضي هو الأيديولوجيا الخاصة بنا، التي نتغنى بها، ونعتقد أن علينا أن نعيد إنتاجها من جديد. ولم يحدث لنا هذا إلا نتيجة عجزنا عن ارتياد المستقبل. لقد عجزنا عن المستقبل، فرجعنا إلى الماضي، واكتشفنا فيه أحلاما قادرة على تخديرنا بكل جميل. إن كل هذا يحدث لنا لأننا نملك مستودعا ماضويا هائلاً، يثقل كاهلنا بأحلام تعجز أمريكا عن تحقيقها. وإن أمة لا تعرف لها مرجعا إلا الماضي، وتستنكف عن الأخذ بأسباب المستقبل؛ لجدير بها أن تواصل تراجعها، كلما أنتجت لغتها معلقة أخرى. إن الأمم تتطلع إلى المستقبل، ونحن نتطلع إلى الماضي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ الشافعي. الأم. ج1. بيروت. دار المعرفة. دون تاريخ. مقدمة دون مؤلف. الصفحة المرقومة بالحرف هـ من المقدمة.

2ـ انظر: ابن تغري بردي. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. ط1. ج4. بيروت. دار الكتب العلمية. 1992. ص179 ــ 182

3ـ انظر هومي بابا موقع الثقافة موقع الثقافة. ط1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2004. ص.48. وانظر كذلك: عطيات أبو السعود. نيتشه وما بعد الحداثة. فصول (القاهرة). ع63. 2004. ص50 ــ 61

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى