مضايق الظل التجريدية في “ظلال تسقط إلى أعلى” للمغربية عُلَيَّة الإدريسي

رضوان السائحي | ناقد من المغرب

تنتهج القصيدة المعاصرة سبيل المغامرة والافتتان، كما يشير محمد بنيس، وذلك بغاية إعادة بناء المسكن الشعري كمسكن  رمزي ووجودي للذات الكاتبة. ولطالما كانت القصيدة عند الشاعرة المغربية علية الإدريسي البوزيدي مجموعة بُنى لفظية لاختيار نمط تواجدها، وتحديد إحداثيات وجدانها بمجموعة من أسئلة جدلية تحاور الذات الشاعرة، متجنبة فخاخ الجمود في الشكل والمضمون والافتعال النصي، مما وسم تجربتها الشعرية بالجدية واجتيازها لمآزق الممارسة النصية وأنساقها.

صدرت مؤخرا المجموعة الشعرية “ظلال تسقط إلى أعلى” للشاعرة المغربية علية الإدريسي البوزيدي، ضمن منشورات بيت الشعر في المغرب، من القطع المتوسط في 114 صفحة، وضمت 32 قصيدة، مقسمة إلى ثلاثة عناوين كبرى:

1- ظلي يسرقه الغبار.

2- سقف يبحر أمامي.

3- أبي كان إسمي القديم.

 تتشكل المعايير التخييلية للمجموعة انطلاقا من الكتابة المتفاعلة مع الواقع، واستكناه الذات منذ التجربة الشعرية الأولى “حانة لو يأتيها النبيذ” عام 2009، مرورا بالديوان الثاني “هواء طويل الأجنحة” عام 2014، وهي مراحل إبداعية تبرهن اشتغال الشاعرة الدؤوب على النص الشعري الجاد، والمتطور لغويا وتخييليا انطلاقا من وعيها باللغة الشعرية الناضجة، والمواضيع النابضة بالأحداث، والوقائع التي تعكس رؤيتها ووعيها بالسياقات الفكرية والثقافية، وذلك عبر هذه السنوات التي عرفت خلالها القصيدة العربية بعض التحولات في مضامينها وطريقة تناولها للمواضيع تحت تأثير الوضع العربي الآني، خصوصا بعد ثورات الربيع العربي وتجلياتها والآثار التي خلفتها من حروب طائفية ودينية أدت إلى التمزق والدمار، ووقوف الشاعر العربي المعاصر في مفترق طرق مؤرقا بأسئلة ديستوبية جراء ما تشهده المدن العربية، مما أدى به إلى الاستكانة الذاتية وتفجير ذاته الشاعرة بحثا عن الإنسان الشاعر. فالشاعرة لا تختار الاختباء خلف النص، ولا تعتمد أنساق الرؤية الضبابية لتشتيت انتباه القارئ ووضعه خارج سياق النص وسط متاهة لغوية مبهمة، لكنها تلغي إبدالات المضايق النصية، وتفكك الدلالات لإعادة بناء الممارسات اللغوية المعبرة، لأن الشاعر كما يقول غراء مهند، يحاول أن يسجل ما يمكن قوله، ويقول ما لا يمكن التعبير عنه. تقول الشاعرة:

ظلي في الضفة الأخرى

يلوح لظلي الذي يجلس

قرب النهر“.

والظل ذلك الكائن الغرائبي الذي تبرع العين في رصده وتتبع تجلياته متخذا أشكالا سوريالية، والذي لا ينشأ بمعزل عن الضوء، يقول عز وجل: “ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا عليه الشمس دليلا”. والشاعرة لا توظف الظل كانعكاس تلقائي للأشياء والأجسام أمام انبساط الضوء، وإنما من منطلق حمولاته الجمة ومدلولاته المتعددة التي يحملها في طياته في الخطاب اليومي والأدبي والفلسفي والمسرحي والتشكيلي والسينمائي والتصويري… فكما نعلم فالظل تميز بتأثيره القوي على الإنسان منذ القديم أبرزها الظاهرة الظلية للكسوف والخسوف، فارتبط بالأساطير والخرافات لدى الأمم والشعوب، فكانوا يسمون العالم ما بعد الموت بأرض الظلال، ويعتبرون ظاهرة الكسوف دلالة على غضب الآلهة خصوصا الشعوب التي كانت تعبد الشمس، وكان ظل الزعيم والكاهن مقدسا لدى القبائل البدائية، لأنه في اعتقادهم امتدادا لروحه. واستغل الصينيون القدماء الظل فاخترعوا دمى مسرح الظل قبل الميلاد، وازدهر هذا الفن وانتشر عبر العالم في القرن التاسع عشر. واستخدمه الرسامون كأحد ألوان اللوحة أو أحد مواضيعها، ويشير الرسام الانطباعي رينوار:”ليس هناك ظل أسود، الظل له لون دائما”.

استغلت الشاعرة القيمة الرمزية للظل وحمولته الدلالية وقيمته الفنية للتعبير عن المتعاليات الوجدانية التي تغترف من جداول الظل كؤوس قصيدة متفاوتة الأحجام، وتعدد الظلال عندها وانفصالها عنها يقلل من شأن التوحد مع الآخر، والانكفاء على الذات لاستكناه أغوار الوجدان الموسومة بالتجريد، وهي في سعيها المتفاعل مع الكتابة الجادة تنجذب للجمالية الشعرية متواطئة مع حداثة النص فكريا وثقافيا تستجيب لرؤيتها الفلسفية والفنية للقصيدة، وانطباعها المنبثق من مضايق عوالم مبهمة لواقع تراكمت فيه كل محفزات الألم والتعاسة وخيبة الأمل مستفيدة من المشهد الشعري العربي المليء بالإضافات الشعرية التحديثية على يد مجموعة من الشعراء المغاربة والمشارقة في ظل التواصل الرقمي والتلاقح الفكري والثقافي.

(…) كأن السماء قريبة

من يدي طفلة

كلما تشبهت ببعضي

سال كلي

ما بال هذا النسيان لا يروم

عن قليلي؟

ما بال هذا العهد يتبعني

أنا التي أضاعت كلي

في بعض بعضي

وما مُلئت سحبا…”

يمتلئ الديوان بنبرات التحدي لسبر أغوار القصيدة وشق الطريق إلى جوهر الشعر من خلال إبراز الذات المتعالية وسط متاهة ديدالوسية، ومحاولة الارتقاء باللغة الشعرية الأنيقة المستوحاة من أفكار مسكونة باشتراطات الواقع العسيرة، والثورة على الصور النمطية اللصيقة دائما بالتفكير المعتاد اتجاه الأشياء والأشخاص الذين نعايشهم بشكل يومي. وما ردود فعل الشاعرة ونظرتها إلى الأمور إلا ظلال ساقطة من أجل خوض غمار الشعر وغمار القصيدة الحداثية لإبراز كثافة الصورة واللغة.

“صرت أتبعني

كلما جلست

أرقب

ظلا

صغيرا

نادى علي البحر.

كل الطرق أراها

على بابي

لولا أنني عمياء…”

إن اختيار تيمة الظل لهذه المجموعة الشعرية كان لاعتبارات فنية وجمالية استعانت بها علية الإدريسي لإضفاء أولا تداعيات هندسية تتخذها الأشياء وفق زاوية رؤية الشاعرة وتفاعلها مع الآخر، وانفعالها مع الذات، والتكثيف اللوني الذي يتميز به كل ظل وفق حدة النور وشدته، وثانيا لإضفاء حركية وسيرورة زمنية داخل هيكل القصيدة، وجاء توظيف الظل من منطلق عدة دلالات داخل المجموعة، حيث تحتل هذه المفردة حيزا هاما في الديوان، خصوصا في الجزء الأول والمعنون ب: ” ظلي يسرقه الغبار”. وتقتنص الشاعرة من خلال هذا التوظيف صورا تجريدية مرصودة من الواقع وتشابهاته، مستعينة في نفس الوقت بالذاكرة المتيقظة، نافخة فيها جرعات زائدة من الإحساس والعاطفة، وهي صور تمتزج بدلالات حسية:

“أود

 لو كلما تعثرت بظلي الآخر

قرأت في سري

أحبك”

وهذا ساعد الشاعرة كي تستجمع اختمارات الذهن والوجدان، وتضيفها إلى التفكير الشعري، فالظل لديها غير ثابت بل منفلت، وأحيانا تحاصره وتجادله، (لست ظلالا تنخر هذي الأرض التي لا أعرفها)/ (فما لي أترنح كربيع مسه الظل)/(كأن ظلي وحيد)/(لست ظلي أيها الظل)/(كأن المسافة ظل يركب قلق المرآة)/(كان ظلي كحديقة الخارج يتبعني)/(وكمن يقف على الماء، أحرس ظلي من ظلي، ولا أفطمني)/(ولا أشفق على ظلي الذي يميل علي ساقطا)/(أنحني لظلي يرشد ضياعي)…

إن التوظيف الانقلابي للظل يحقق الإدهاش الفعلي لكيفية التلاعب بتداعياته ويكسر النمطية في محاكاته المعتادة للأشياء والأجسام، والذي يستدعي وجوده انبعاث النور، إلا أننا لا نجد تيمة النور تلازم الظل في النصوص الشعرية، بل هي تيمة انشقاقية:

“كلما فتحت ألبوم

صور

توأمتني على صهوة الضوء”

وفي خضم التلاعب الفني بالظل اعتمدت الشاعرة تقاطعات عمودية بكثرة في نصوصها كامتداد لعتبة المجموعة الشعرية “ظلال تسقط إلى أعلى” من تحت إلى فوق:

“أنا أفكر في رسم

يعيد ملامح الأرض لوجهي الذي

بات قديما

سأنضم إلى السماء

كتعب يبحث عن بحر

كي لا ألتفت”

وانفتاحها على جماليات تعبيرية تساهم في بناء الخطاب الشعري المعاصر الذي يتبناه شعراء المرحلة، والقادر على استيعاب الواقع والتحولات التي يعرفها العالم، خضبته الشاعرة برؤى وجدانية ثاقبة، وإجراءات فنية شكلت المفهوم الحديث للتفاعل مع الذات، والنظرة البناءة للواقع، واستلهام تداخلات الذاكرة، وتحولاتها المليئة بزخم متعدد البنيات في استرجاع أحداث عابرة عبر التفاتات تجريدية أبانت عن قدرة الشاعرة في جعل النص الشعري نصا مفتوحا على عدة قراءات وتأويلات.

“لا تله مع بئر

فقميص يوسف

قُد

من صدر حلم

لا يشم رائحة وطن(…).

وتوظف الشاعرة تقنية هندسية، كما دأبت في ديوانيها السابقين، تتمثل في نقط الحذف بين هلالين (…) تفتتح بها الشاعرة مقطع القصيدة أوتختمه بها معبرة بذلك إما عن زمن أو قول أو حدث أو صورة شعرية… سابقة أو لاحقة مستترة غير معبر عنها.كما تنحفر مفردة “الطريق” عبر جغرافية النصوص، وهو توظيف قيسري يتلاءم وممارسة الشاعرة  للتعدد والاختلاف للانفلات من مضايق اختياراتها الشعرية الحداثية من أجل اقتحام منافي القصيدة من عدة منافذ تخييلية في خضم فك رموز التصور الشعري وتسييج الرؤية المتوجسة من جدلية الثابت والمتحول:

“أنا لست :زائغة

هذا الطريق احتداني

واستسقى بي الأرض”

“(…) في شوارعي

كنت أقلم الطريق

التي لا تمشي

بشجن إليك”

إن “ظلال تسقط إلى أعلى” إضافة شعرية متوهجة للمشهد الشعري المغربي تراهن من خلالها علية الإدريسي البوزيدي على تشبثها بخوض تجربة الرهان الشعري الحداثي الذي لا يعكس تجربة إبداعية مرحلية، بل هي امتداد للمنجز الشعري الذي تسعى الشاعرة إلى تحقيقه من خلال تطوير تجربتها والارتقاء بكتابتها الشعرية التي تفتح لها آفاقا طيبة في المستقبل.

“يشاع أن الأحزان تتزين

كي لا تصاب بالعمى

هكذا أنا

أخلع الباب

أمسح السماء

وللعتمة أتزين(…).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى