روسيا و ” إسرائيل” و الشرق الأوسط

توفيق شومان | مفكر وخبير سياسي لبناني
ليس من السهل التسليم المطلق بما أورده رئيس الوزراء اللبناني الأسبق حسين العويني ، في محاضرة تحت عنوان “خواطر سياسي” ألقاها في إبريل / نيسان عام 1955م، عن حوار دار بين الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في “مؤتمر يالطا ـ 1945″، حين قال ستالين لروزفلت: ” أنا صهيوني من ناحية المبدأ”، فرد عليه روزفلت: “وأنا كذلك”.
هذا الحوار ، وبحسب العويني، كشفت عنه وثائق وزارة الخارجية الأميركية في السابع عشر من مارس/ آذار 1955م، أي قبل شهر من إلقاء المحاضرة، مستعيدا بذلك، مواقف الإتحاد السوفياتي والإعتراف المبكر بإسرائيل، والمستعجل بانفعال مدهش تبني قرار تقسيم فلسطين.
ذاك البوح الذي أسره ستالين لنظيره الأميركي، يمكن أن نجد توضيحاته وتفصيلاته في حوار أجرته قناة “روسيا اليوم” بتاريخ 28ـ 12ـ 2013 ، مع آناتولي غروميكو، نجل المندوب السوفييتي إلى مجلس الأمن الدولي في أربعينيات القرن العشرين، ووزير الخارجية السوفييتية بعد حين، إذ يقول أناتولي غروميكو عن والده: “إنه كان يتعاطف كثيرا مع اليهود لأنهم شجعان، وشاهد بأم عينه كيف تمت إبادتهم في الحرب العالمية الثانية”.
وشبيه ما قاله نجل غروميكو قاله الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين عام 2020 أثناء مراسم إزاحة الستار عن نصب ” شمعة لينينغراد ” المقام في القدس المحتلة (موقع ” روسيا اليوم ” 23 ـ 1ـ2020 ) ، إذ قال بوتين : ” تعطي إسرائيل أهمية بالغة للحفاظ على حقيقة إسهام الاتحاد السوفيتي في الإنتصار على النازية، وهي تشعر، شأنها شأن روسيا، بالقلق والإمتعاض من محاولات إنكار الهولوكوست وتبرئة القتلة والمجرمين، وهذه الصفحات هي الصفحات الأكثر سوادا وخزيا في التاريخ الحديث، نحن نحزن لجميع ضحابا النازية بمن فيهم ملايين 6 ملايين يهودي هلكوا في الغيتوهات ومعسكرات الموت، وقتلوا بطريقة وحشية و40% منهم هم مواطنو الإتحاد السوفيتي السابق”. 
هذه الشهادات تعيد إلى الذاكرة السياسية مسألتين في غاية الأهمية، الأولى مرتبطة بخطاب اندريه غرميكو في الرابع عشر من مايو / أيار 1947، حيث قال: “إن ممثلي الدول العربية يزعمون أن قرار تقسيم فلسطين غير منصف وغير عادل ولكن وجهة النظر العربية غير منصفة، لأن للشعب اليهودي حقا وثيقا في فلسطين”، وأما المسألة الثانية فتتمثل بخطاب رئيس مجلس الوزراء السوفييتي الكسي كوسيغين في الأمم المتحدة في 19 يونيو/ حزيران1967م، أي بعد أيام معدودات من حرب الأيام الستة، حيث قال : ” لكل شعب الحق في تأسيس دولته الوطنية المستقلة، وحددنا من هنا بالذات موقفنا من إسرائيل كدولة وصوتنا عام 1947 إلى جانب قرار هيئة الأمم المتحدة وأقام الإتحاد السوفييتي بعد ذلك علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل اهتداء منه بهذا الموقف”.
ذاك الموقف السوفييتي ، يصفه المفكر الفلسطيني “صلاح الدباغ” بـ “الغموض”، في دراسة استشرافية مبكرة له بعنوان: “الإتحاد السوفييتي وقضية فلسطين ” ، صادرة عام 1968 عن مركز” الأبحاث ” التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، إذ لا يجد الكاتب مبررا للإتحاد السوفييتي بعدم الإعتراف بمنظمة التحرير حتى ذلك التاريخ ، بل إن الرئيس ياسر عرفات، اضطر أن يبقى منتظرا ووحيدا، لمهلة محددة، في الطائرة التي أقلته إلى موسكو بمعية الرئيس جمال عبد الناصر عام 1968، لأن القادة السوفييت رفضوا استقباله كممثل للشعب الفلسطيني.
ما سبق قوله، يستقدم أربعة مواقف سوفييتية تفيض بالأسئلة والتساؤلات حيال القضية الفلسطينية:
ـ 1: الأول: حين رفض الإتحاد السوفييتي مقترحا أميركيا في مارس / آذار 1948 بإعادة النظر بقرار تقسيم فلسطين قبل تنفيذه، فعلل السوفييت رفضهم بأن الولايات المتحدة تعمل على”تحطيم” قرار التقسيم لأنها تقدم مصالحها النفطية على حساب “التسوية العادلة”، على ما جاء في كتاب نورهان الشيخ “موقف الإتحاد السوفييتي وروسيا من الوحدة العربية ” ، الصادر عن مركز ” دراسات الوحدة العربية ” في بيروت 2013.
ـ 2: الحملة السياسية الشعواء التي قادها الإتحاد السوفييتي في مجلس الأمن الدولي عام 1948 ضد الجيوش العربية التي دخلت فلسطين، واتهامها بممارسة العمل العدواني ضد إسرائيل، وذهبت الكتلة السوفييتية لاحقا، إلى تزويد الإسرائيليين بالأعتدة والسلاح، الأمر الذي أدى إلى التوسع الإسرائيلي إلى خارج حدود التقسيم كما ورد في ” الموسوعة الفلسطينية ” .
ـ 3: إسقاط الإتحاد السوفييتي لمشروعين: مشروع المقاطعة الإقتصادية العربية لإسرائيل بين الأعوام 1953ـ 1956 والذي أجهضه السوفييت بمعادلة “النفط السوفييتي مقابل الحمضيات الإسرائيلية”، وإسقاط مشروع الدعوة لسحب الإعتراف بإسرائيل، الذي ناقشه مؤتمر تضامن الشعوب الأفروـ آسيوي ـ أميركي اللاتيني المنعقد في العاصة الكوبية هافانا في يناير/ كانون الثاني 1966.
ـ 4 : الرهان على القادة الإسرائيليين ذوي النزعة اليسارية ـ الإشتراكية ، وأغلبهم من جذور روسية وبولندية، مما يحول دون انزياح اسرائيل نحو المحور الغربي على ما يقول آنا تولي غروميكو في حواره المسبوق ذكره مع قناة “روسيا اليوم ” حول اعتقاد ستالين بأن اعترافه بإسرائيل سيجعلها تتعامل مع الإتحاد السوفياتي، وهذا الرهان على ما يبدو ما زال قائما، إنما مع تبدل أدوات الرهان، من ذوي النزعة اليسارية إلى الناطقين باللغة الروسية  فحين يقول الرئيس فلاديمير بوتين إن “إسرائيل إحدى الدول الناطقة باللغة الروسية يكون الحديث عن علاقة خاصة بين روسيا وإسرائيل أمرا بديهيا ” مثلما أوردت وقالت صحيفة ” الأخبار” اللبنانية (23ـ3ـ2010).
إن هذه الاستعادة التاريخية لقواعد السياسة الخارجية السوفييتية حيال القضية الفلسطينية  تدفع نحو البحث عن متغيرات بين السياسة الخارجية لموسكو في المرحلة السوفييتية الراحلة وبين سياستها في المرحلة الروسية الراهنة ، وعلى ما تظهر نتائج المقارنة بين مرحلتين مختلفتين، أن ثباتا ما انفك قائما بين السياستين، وقد رثه الرئيس فلاديمير بوتين عن أسلافه السوفييت  وهو يقوم على مجموعة من العوامل أهمها :
ـ إن موسكو تعتبر إسرائيل من ثوابت الأمر الواقع، وبأنها “منتوج شرعي لمطلب تاريخي شرعي”، كما ردد أكثر من مرة وزير الخارجية السوفييتية الأسبق اندريه غروميكو، وكما قال سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية الحالي (وكالة ” سبوتنيك” الروسية ـ 11ـ 2 ـ 2019 )  بأن أمن إسرائيل يحظى بالأولوية لدى موسكو، وهذا الدور الروسي في الحفاظ على الأمن الإسرائيلي مرده بحسب ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى “أن روسيا كانت شريكة في إقامة إسرائيل” مثلما ورد في نشرة ” فلسطين اليوم ” في الثامن والعشرين من شباط / فبراير 2019.
وإلى جانب “الثابت الشرعي “، ثمة حرص روسي على عدم الصدام بإسرائيل ، مهما كانت الأسباب، ففي تاريخ “الإحتكاك” الناري بين موسكو وتل أبيب أكثر من شاهد وواقعة، من ضمنها إسقاط الطائرات الحربية الإسرائيلية لخمس طائرات مقاتلة سوفييتية في الثلاثين من يوليو / تموز 1970 على الجبهة المصرية، وقُتل في هذه المواجهة الطيارون فلاديمير جورافليف، ونيكولاي يوريتشينكو، ويفغيني ياكوفلييف ، على ما ذكرته وكالة “سبوتنيك” الروسية (19 ـ 1ـ 2016) ، فيما مجلة ” الأمن والدفاع العربي ” ( 27 ـ 4 ـ 2018 ) تنقل عن المؤرخ الإسرائيلي شلومو آلوني قوله إن هذه الطائرات أسقطها الإسرائيليون بعد خطة استدراج محكمة للطائرات السوفييتية، ومع ذلك لم تقرع موسكو النفير ولم تسع إلى المواجهة ، وهذا هو السياق نفسه الذي سارت موسكو عليه إثر إسقاط طائرة ” اليوشن 20 ” الروسية في الأجواء السورية في سبتمبر / أيلول عام 2018 ، إذ تباينت العلاقات بين تل وأبيب وموسكو وسرعان ما عمل الطرفان على تسوية التباين وإعادة ترتيب العلاقات الثنائية وإلى حدود فاضت بها عملية الترتيب بعناصر جديدة ومستجدة دفعت الرئيس بوتين إلى الإسهام بإنجاح بنيامين نتنياهو بالإنتخابات العامة في ابريل / نيسان 2019، من خلال تسليمه رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل، قبل أربعة أيام من العملية الإنتخابية .
وهذا الحرص الروسي على إعادة إنعاش العلاقة مع اسرائيل بعد كل كبوة أو سقطة ، يمكن التقاط شواهد منه في مجموعة عصية على الحصر في سجل العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية ، ففي العام 1953، انفجرت شحنة ناسفة في مبنى المفوضية السوفييتية في تل أبيب ، فاحتجت موسكو على الأحكام المخففة بحق المتهمين ، فقطعت علاقتها مع إسرائيل ثم اعادتها في السنة نفسها ، وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، سحبت موسكو سفيرها من تل أبيب لتعيده بعد أشهر ، وفي العام 1957، اعتقلت السلطات السوفييتية ، الياهو هازان، الملحق بالسفارة الإسرائيلية في موسكو بتهمة التجسس ثم أطلقت سراحه ، وهذا ما جرى مع السكرتير الثاني في السفارة الإسرائيلية في موسكو أيضا في عام 1966، واعتبرته شخصا غير مرغوب به .
ومن خلال هذه الوقائع والشواهد ، يمكن القول إن تباينا أو تعقيدا في منظومة العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية، تفترض قراءته كنتوء طارىء على هذه المنظومة ، وليس مدخلا يؤشر نحو انعطافة عنها ، فالأركان العامة للسياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط، لا يرتكز أي منها على اعتبار إسرائيل عدوة ، ومثلما كانت السياسة السوفييتية غير معنية بإستعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967، فالسياسة الروسية الراهنة غير معنية هي أيضا بإستعادة هذه الأراضي ، وإذا كان الخطاب السوفييتي نهض تقليديا على مقولة الأمن والسلم الدوليين ، وبالتالي عدم الصدام المباشر مع الولايات المتحدة، فإن السياسة الروسية الحالية لا تخرج عن السياق القديم نفسه، فلا حارب السوفييت مع العرب في حرب الخامس من يونيو / حزيران 1967، ولا أخذهم الإنفعال للدفاع عن المقاومة الفلسطينية إبان الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ، وفي حين أن الدخول الروسي المباشر في الأزمة السورية عام 2015 ، أنتج تحولا ميدانيا غير مسبوق في مسارات هذه الأزمة ، فإن موسكو ابتعدت عن الصدام مع الولايات المتحدة ، وحرصت على تنظيم شبكة المصالح مع كل من تركيا وإسرائيل ، ليبقى البحث عن تنظيم قواعد العلاقة والمصالح مع ايران خاضعا ومفتوحا على ظروفه ومكوناته الخاصة.
وإذ تبدو روسيا في هذه الآونة صديقة لكل الأطراف في المنطقة، ويجتمع تحت مظلة صداقتها، أضداد ومتنافرون ، من تركيا إلى سوريا وإسرائيل ، ومن إيران إلى السعودية ، حيث يتسع قطار الصداقة الروسي للجميع ، فإن السؤال الذي يعقب هذه الفسيفساء في علاقات روسيا الإقليمية يتمحور حول قدرة الرئيس فلاديمير بوتين في حياكة هذا النسيج غير المنسجم بين أصدقائه الإقليميين ؟ .
لعل الإجابة عن هذا السؤال، تكمن في إجادة الرئيس بوتين مبدأ “القبض” على المخاوف الأمنية لأصدقائه ، فإسرائيل تخشى على مصالحها الأمنية العليا ، فيفتح بوتين الطريق لها في سوريا ضربا وقصفا، والدولة السورية بحاجة إلى درع دولي للحماية، فيوفر لها الرئيس الروسي هذا الدرع، وإيران بحاجة الى صديق عابر للقارات للحفاظ على حضور إقليمي يوسع مجالها الأمني والإستراتيجي ، فيتقدم بوتين نحوها صديقا لدودا، وتركيا التي دخلت علاقاتها منذ حوالي عقد في مرحلة قلقة مع الولايات المتحدة، وباتت نصف شريك مع واشنطن، يكمل معها بوتين نصف الشراكة المفقودة ، والسعودية المرتابة من إيران يقدم لها بوتين مفتاح الطمأنينة بتوسيع العلاقات معها ، وكذلك يجيد بوتين مراقبة أسهم العلاقات السعودية ـ الأميركية ، وحركة صعودها وهبوطها ، فيلتقط نبضها وإيقاعها فيمد يده لتصافح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بحرارة غير منتظرة، مستغلا عزوف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن ذلك في ظل تداعيات عاصفة مقتل الكاتب جمال خاشقجي ، على هامش قمة العشرين في الأرجنتين في آواخر نوفمبر / تشرين الثاني 2018 .
من هذه الوقائع، يمكن الوصول إلى محاولة أولية لفهم سياسة الرئيس بوتين في الشرق الأوسط، فهي امتداد في بعض وجوهها لما خطه وصاغه الأسلاف السوفييت لناحية الثوابت في العلاقة مع اسرائيل وضمان أمنها، ومن ناحية ثانية عدم الإنخراط في الحروب الناشبة بين دول المنطقة، و من ناحية ثالثة تحاشي الصدام المباشر مع الولايات المتحدة اعتمادا على المبدأ السوفييتي القائل بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين ، وأما الجديد والمختلف عن الحقبة السوفييتية ، فيتمثل بعدم رزوح السياسة الخارجية الروسية لأثقال أيديولوجية ولا لصراع المحاور ، وانتهاج معادلة التعاقد الثنائي بين روسيا وهذه الدولة الإقليمية أو تلك، وفقا لقواعد علاقات الصداقة الإستراتيجية وليس الأحلاف الإستراتيجية، مع الإشارة إلى أن قواعد هذه العلاقات خاضعة لعقيدة براغماتية صرفة ، فهي تلبي المصالح العليا للدولة الروسية الطامحة إلى العودة قطبا دوليا ، وتحافظ على الحد الأعلى لمصالح اسرائيل الأمنية، وتراعي الحد الأدنى للمصالح الأمنية لأصدقاء روسيا الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى