مناعة العدل والمساواة في زمن كورونا

أ.د. فيصل رضوان أستاذ وباحث التكنولوجيا الحيوية والسموم البحرية. جامعة سوهاج مصر – والمعهد القومي للمحيطاتا بلولايات المتحدة الأمريكية

رغم اجتهاد الدول شرقا وغربًا في استنباط الخطط والتدابير بشكل يومي والتعامل السريع مع تداعيات الأزمة الصحية لكورونا المستجدة، إلا أنه يجب عدم تجاهل السياق السياسي والاقتصادي الذي قاد العالم الى هذه النقطة الحرجة. 

أحد تداعيات وباء كوفيد-19 ، وربما أسباب تواجده، وكل ما نشاهده من آثار صحية و اقتصادية موجعة اليوم ، هو أن الدول قد نظمت مجتمعاتها بطرق تجعلها شديدة الضعف والهوان والحاجة. لقد أنشأت الأنظمة هيكلًا للمكافأة يستفيد منه، وبشكل حصري ومتزايد، نخبة صغيرة جدا من أصحاب المصالح، على حساب جموع من الكادحين الذين هم عصب الحياة ووقود العمل. 

وعلى مدى أربعة عقود من التسابق الصناعي والاقتصادي، أضعفت الدول نظام العمالة المنظمة وخلقت بدلها قوة عاملة أكبر من أي وقت مضى، بموجب عقود مؤقته هلامية وغير آمنة ، الأمر الذي لم يترك لدى العديد أي خيار أو حتى فكرة عن طبيعة دخلهم ، ربما من أسبوع لآخر. هذا النظام الجائر جعل الكثير من الناس حول العالم وفي الولايات المتحدة الأمريكية يعانون في الحصول على أساسيات المعيشية، بما في ذلك الرعاية الصحية. 

من المهم الإقرار بأنه في حين أن أولئك الذين لديهم دخل آمن يمكنهم بكل راحة تحمل تكاليف عزل أنفسهم إذا مرضوا، بينما يجب على أولئك الذين لديهم عقود صفرية القيمة، الاختيار بين توفير الأكل أو حماية أنفسهم والآخرين من خطر الوباء. ونتيجة لذلك، نجد أن المجتمعات الأكثر ثراءً، تكمن قوتها أساسًا في تضاؤل نقاط ضعف أفرادها. لذلك، قد لا يكون من المستغرب انه بمرور الوقت، يزداد الملل لدى أصحاب رؤوس الأموال، الذين لن يدركوا قيمة العامل البشرى ووضوح هذا الترابط من قبل ، ولَم يروا أن مصالحهم قد لا تتماشى بشكل طبيعي تحت هذه الظروف الحالية. لعله من المستحيل التنبؤ بالمستقبل. ومع ذلك، فإنه يمكننا إدراك أن أي شخص يمكن أن يصاب بالفيروس التاجي الذي يسبب COVID-19 ، سواء كان رئيس وزراء المملكة المتحدة أو وريث العرش البريطاني، وهو تذكير بالضعف المشترك للجنس البشرى ، وأن كورونا وباء عادل لا يفرق بين البشر الغنى والفقير سواء. وحين نتذكر الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تنبه جيلا من الناجين، أن أي شخص يمكن أن يكون ضحية لانفجار قنبلة. ولكن حينما أنشأ أولئك الذين نجوا من الحرب دول الرفاهية في جميع أنحاء أوروبا الغربية، لم تسعى هذه الدول ذاتها إلى المساواة الكاملة بين الناس، ولكن بدلاً من ذلك، وفرت أنظمتها نوعًا من الأمان للجميع ضد المصائب المستقبلية. وبدلًا من اتخاذ الخيارات العادلة، تصرف الساسة كما لو كانوا وراء— ما وصفه الفيلسوف جون رولز بأنه حجاب الجهل، دون معرفة موقفهم ، إذا ما كانوا على الجانب الآخر. كما وصف الاقتصادي السياسي ألبرتو أليسينا وآخرون، بأنه لم يكن هذا هو الحال في الولايات المتحدة، حيث يمكنك دائمًا معرفة ما إذا كنت الشخص أسود أو أبيض. 

في حالة الوباء، كما هو الحال أثناء الحرب العالمية، يكون الجميع عرضة للخطر، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، ولا يمكن لأحد أن يشعر بالأمان بمفرده. ويجب أن يوفر هذا الموقف الفريد الفرصة وإيقاظ الأمل في مجتمع أكثر عدلاً وأمانًا وأمنًا اجتماعيًا. ومع ذلك، مطلوب الحذر والوعي. فمنذ البداية وحتى الآن يسعى بعض السياسيين إلى استخدام الوباء كأداة ليس إلا، وتصوير التهديد الصحي على أنه خدعة مبالغ فيها من قبل أولئك الذين يسعون إلى المنافسة. ويظهر هذا جليًا خصوصا فى الشأن الأمريكي، ونحن على بعد شهور قليلة من انتخابات الرئاسة. وحيث تظهر البيانات تناقضا في كل ولاية في الولايات المتحدة، كلٌ حسب الولاء السياسي لها، ووجود فجوة واضحة بين الديمقراطيين والجمهوريين في المدى الذي يُنظر فيه إلى COVID-19 على أنه تهديد صحى. والأكثر إثارة للقلق هو أن الوباء اثار الجدل وإلقاء اللوم، أكثر من تعزيز الاتفاق والتشاور. وربما على مر الزمن، قد تمكن الساسة السطحيين، ذوى الشعبية المؤقتة والتي تدعمهم المصالح الخاصة ووسائل الإعلام المضللة، من استخدام الأزمات عمومًا لزرع الانقسامات، بين الصغار والكبار والأغنياء والفقراء والمرضى والأصحاء، والأقليات العرقية والأغلبية السكانية، والمهاجرين والمحليين. 

لعل العالم اليوم عند مفترق طرق. وقد يمكن لهذا الوباء COVID-19 أن يشجع الناس على إدراك أنهم يعتمدون على بعضهم البعض حتى ينجو الجميع على هذا الكوكب الصغير، سواء تعلق الأمر بالاحتباس الحراري أو عدم المساواة أو مكافحة التدهور البيئي ، فأما أن نختار أن نسبح معاً، أو نغرق معًا.
وقد تزول الأزمة قريبا ولكن يبقى السؤال: هل يمكن أن يدرك المجتمع أخيرًا القيمة التي يساهم بها أولئك الذين هم غالبًا وراء كل الأعمال، ولكن لا يزالون بعيدًا عن الضوء، أو كما يسمونها الان “اللقطة”؟ بما تحمله من آثار معنوية ومادية!! لعله بالإمكان أن تصنع جائحة كورونا نقطة تحول ، وأهمها استعادة الثقة في العلم النافع، والعدالة بين الناس . ولن يحدث هذا إلا إذا تم السماع الى أصوات صفوة العلماء والمتخصصين في الرعاية الصحية والبيئية. ولطالما ارتبطت توابع السياسة بالصحة العامة للشعوب ارتباطًا وثيقًا وستظل دائمًا. 

المراجع للاطلاع:

‏Rawnsley A : The coronavirus crisis ignites a bonfire of Conservative party orthodoxies. The Guardian. https://bit.ly/2KBrmuc

‏Rawls J. A : Theory of Justice, Harvard University Press, 2009.
‏Alesina, A., Glaeser, E. & Glaeser, E.L. Fighting Poverty in the US and Europe: a World of Difference , Oxford University Press, 2009.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى